الارض و التربه الحسينيه

اشارة

سرشناسه : آل كاشف الغطاآ، محمدحسين، 1954 - 1877

عنوان و نام پديدآور : الارض و التربه الحسينيه/ محمدالحسين آل كاشف الغطاآ

وضعيت ويراست : [ويرايش 2؟]

مشخصات نشر : قم: المجمع العالمي لاهل البيت(ع): رابطه الثقافه و العلاقات اسلاميه، 1416ق. = 1995م. = 1374.

مشخصات ظاهري : [84] ص

فروست : (المجمع العالمي لاهل البيت 34)

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس

موضوع : تربت حسيني

شناسه افزوده : مجمع جهاني اهل بيت(ع)

شناسه افزوده : سازمان فرهنگ و ارتباطات اسلامي

رده بندي كنگره : BP263/2/آ7الف 4 1374

رده بندي ديويي : 297/7645

شماره كتابشناسي ملي : م 75-4416

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

مقدمة المجمع

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّٰه رب العالمين و الصلاة و السلام على خاتم الأنبياء و المرسلين سيدنا محمد و آله الطاهرين.

بين يدي القارئ الكريم رسالة الأرض و التربة الحسينية للإمام العلّامة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، و هو من مراجع الشيعة العظام الذين أسدوا خدمات جليلة للحوزة العلمية في النجف الأشرف و دفعوا بالحركة الفكرية و الثقافية إلى الامام، و تركوا آثارا قيمة.

و هذه الرسالة القيمة كتبها المصنف استجابة لطلبات وردت عليه فضمّنها تاريخ التربة الحسينية و ما ورد فيها من فضل. و قد نشرت بعد ذلك عدة مرات من دون تحقيق و لا تعليق و دون تخريج للأحاديث و النصوص.

و قد أخذ المجمع العالمي لأهل البيت عليه السّلام على عاتقه مهمة اعادة

ص: 6

طباعتها و تقديمها إلى القراء الأعزاء بحلة رشيقة مزينة بالهوامش و التخريجات اللازمة، عسى أن يكون بذلك قد أسدى خدمة لهذا السفر و لمؤلفه الكبير.

المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام

ص: 7

تقدمة

اشارة

ورد على سماحة مولانا الإمام كاشف الغطاء رسالة في أول رجب سنة 1365 من الفاضل المهذب أحمد بدران (مترجم مديرية الميناء في البصرة) فذكر فيها أن جماعة من المستشرقين الإنجليز مشغولون بتأليف دائرة معارف يضمّنونها شتى المعلومات و المعارف، و أنه كلف من قبل من اتصلوا به أن يبحث لهم عن مصدر يزودهم بالمعلومات الكافية عن تأريخ التربة الحسينية، و كيف نشأت من بعد مقتل الحسين عليه السلام. و هل كان لها تأريخ من قبل؟ و ما إلى ذلك من المعلومات التي تخص هذا الموضوع، ليقوم بترجمته إلى اللغة الإنجليزية فيكون مصدرا شافيا عن موضوع، هذه التربة، بعد أن يدرجها المستشرقون في دائرة معارفهم الجديدة، و هذا نص الرسالة

ص: 8

الرسالة الأولى:

سماحة حجة الإسلام الأكبر آية اللّٰه الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء دام ظله آمين.

بعد أن ألثم هاتيك الأنامل الشريفة التي أقر بالرق كتاب الأنام لها، و أتبرّك بالدعاء لتلك الطلعة الغرّاء التي انجاب بها عن سماء الإسلام الظلم و الظلم.

أعرض لسماحتكم أن أحد المستشرقين من علماء الإفرنج قد أخذ على عاتقه تأليف دائرة معارف كبرى يضمنها المنقول و المعقول، و قد أراد أن يلم بتأريخ التربة الحسينية إلماما واسعا، بحيث يكون مرجعا للتأريخ في المستقبل. فهو يريد أن يعرف السبب الحقيقي في نشأتها، و كيف أنها وجدت بعد عهد الحسين عليه السلام و هي لم تكن قبله و لا في عهده، و من أول من صلى عليها من المسلمين؟ و خلاصة الأمر أنه يريد تأريخا حقيقيا شاملا لجميع نواحي هذه التربة الحسينية لدرجة في دائرة المعارف الإنجليزية، طلب هذا العالم إلى أحد موظفي الميناء أن يزوده بهذا التأريخ، و هذا الموظف كلفني بدوره أن أتقصى ذلك، و ما كان مني إلا أن يممت العالم الجليل السيد عباس شبّر، و بعد أن عرضت المسألة عليه رأى من الأجدر أن تعرض على سماحتكم،

ص: 9

علما منه بأنكم خير من يقصد للاستفسار في مثل هذه المسائل، و على هذا فإني أضرع لسماحتكم أن تتكرموا بإرسال تأريخ مفصل عن هذه التربة الحسينية بوساطة العالم الجليل السيد عباس شبّر في البصرة لكي أتمكن من ترجمته و إرساله إلى العالم الإنجليزي.

و غير خفي على سماحتكم أن في ذلك إظهارا للحق و إزالة للباطل، و دفعا للشبهة و الشك و الظن و التقول، و أن الكتاب الذي سيؤلفه هذا العالم سوف تطالعه ملايين من البشر، و سيعرفون حقيقة هذه التربة، و سيضربون عرض الحائط ما علق بأذهانهم عنها حتى الآن.

هذا و ختاما تكرموا يا صاحب السماحة بقبول فائق شكري و احترامي و إخلاصي، و تحيات العالم الجليل السيد عباس شبّر و دمتم ذخرا و ركنا للمسلمين جميعا.

خادمكم المخلص أحمد بدران مترجم مديرية الميناء ثم كتب فضيلة السيد عباس شبّر الحسيني كتابا ورد إلى الامام، أوضح فيه حضرته أن الأديب الفاضل صاحب الرسالة المذكور من

ص: 10

قبل هذا قد راجعه في هذا الأمر، و طلب إليه أن يهديه إلى المرجع الثقة في هذا الموضوع، فأشار عليه بذلك، ثم استعجل سماحة الامام بإنجاز هذا البحث الذي سيكون مرجعا وثيقا ينهل منه طالبو الحقيقة و هذا نص الرسالة:

الرسالة الثانية:

صاحب السماحة الإمام آية اللّٰه العلّامة الأكبر الشيخ محمد الحسين دام ظله.

سلام اللّٰه الأسنى و تحاياه الزاكيات الحسنى على مولانا و رحمة اللّٰه و بركاته.

المعروض على خاطركم الكريم أنه سبق منذ مدة قد تكون طويلة إن الأديب اللامع أحمد بدران، و هو من شبابنا المثقف النبيل الغيور على دينه و أمته، و وظيفته الترجمة في دائرة ميناء البصرة، أخبرني أن مستشرقا كبيرا انجليزيا قد عزم على المساهمة في الكتابة بموسوعة (دائرة المعارف الانجليزية الجديدة). و قد اختار أن تكون كتابته في موضوع التربة الحسينية و تأريخها عند الشيعة الإمامية، و لأجل الحصول على المعلومات الكافية راجع دائرة ميناء البصرة يطلب منها أن تأخذ له المعلومات الصحيحة عن أحد علماء الشيعة، و كانت هذه

ص: 11

الدائرة في الوقت قد راجعت بعض المعممين، فكتب في الجواب ما لا يسمن و لا يغني، فلم يرتح هذا الشاب النبيل للجواب عند ما عرض عليه للترجمة، و طلب من رئيس الإدارة أن يراجع في الأمر غير هذا الكاتب، بالنظر لأهمية الموضوع، فأجيب طلبه فعرض ما كتب جوابا علي ليتعرف على رأيي، فأشرت عليه بأن يراجع سماحتكم، و قلت له:

لا يجوز فيما أرى لغير قلم مولانا كاشف الغطاء أن يتناول هذا الموضوع الذي يخص مائة مليون من المسلمين، و عليه فقد استمهل الإدارة و كتب لسماحتكم. و قد أخبرني أنه طلب ان يكون إرسال الجواب اليه بواسطتي، و هو لا يزال يسألني عن وصول الجواب، لأن الإدارة تلحّ عليه بالتعجيل، فالرجاء ان تتفضلوا بتحرير ما ترونه مناسبا في مثل هذا المقام مجملا. و بالختام تقبلوا فائق الاحترام و السلام.

من المخلص عباس شبّر الحسيني و كان سماحة الإمام قد بدأ في تأليف رسالة وافية في هذا الموضوع، لما رأى في ذلك من إنارة أفكار القراء الأجانب، و لفت نظرهم إلى

ص: 12

موضوع خطير من مواضيع مذهب الإمامية الاثني عشرية، الذي يعد سماحته العلم الأكبر بين أعلامه، بما في ذلك من رفع الجهل أو التجاهل بحقائق مذهب الطائفة النبيلة، الذي ظهرت آثاره في التأريخ الخاص منها و العام، نتيجة لسوء البحث أو لسوء النية. و بعد أن بعث سماحته بهذه الرسالة عند إنجازها إلى فضيلة السيد عباس شبّر جاء منه الكتاب التالي:

الرسالة الثالثة:

سماحة العلّامة الأكبر آية اللّٰه الشيخ محمد الحسين دام ظلّه العالي.

السلام على مولانا و رحمة اللّٰه و بركاته، و تحياته الصالحات المباركات، و الابتهال إلى اللّٰه سبحانه من صميم القلب أن يمتّعنا و العالم الإسلامي أجمع بدوام ظلّكم على مدى الأيام:

بقيت بقاء الدهر يا غوث أهله و ذاك دعاء للبرية شامل

تشرّفت الساعة برسالتكم العزيزة في البريد المسجل، و تلوتها بكل إعجاب و أكبار، شاكرا داعيا لسماحتكم، و سأجتمع في أقرب فرصة إن شاء اللّٰه بأحمد بدران، و أوكد عليه بالاهتمام التام في هذه النفحة القدسية و العبقة السماوية التي خص بها يراع المجاهد، اليراع الذي اختاره اللّٰه سبحانه لنصرة دينه و إرشاد عباده فكان آية من آياته

ص: 13

يراع يراع به الجاحدون و يرعى به المؤمن المتّقي

حسام جراز غداة الكفاح و في السلم كالغصن المورق

تخيره اللّٰه للمعضلات و فتح مقفلها المغلق

فأصبح في عصرنا المستنير معجزة الدين و المنطق

و بعد، فما عساني أن أقول في نعت هذا اليراع الكريم الملهم، و وصف رشحاته التي يقصر دون إطرائها البيان و ان (هذه من علاه إحدى المعالي، و ما عسى أن يقال في وصف صحاح الجوهر؟ أستغفر اللّٰه ما قيمة الجوهر) إلى جانب هذه السموط الفردوسية و هي (من جوهر التراب) فاقترح على الأستاذ أحمد بدران عرضها بعد ترجمتها على لجنة من شبابنا المتأدب باللغتين العربية و الإنجليزية، لإخراج الترجمة تخريجا عاليا كما تحبون و نحب إن شاء اللّٰه، و سوف نرسل لسماحتكم نسخة من الأصل و نسخة من الترجمة، تشرّفت قبل رسالتكم هذه بكتابين من سماحتكم، كان ثانيهما جوابا لكتابي الذي أرسلته إليكم، و قد كان لي شبه عزم على زيارة النصف من شعبان، فأكون أنا جواب الجواب، ذلك ما أخّرني عن الإجابة بوقته، و كان كتابي إليكم قبل تشرّفي بكتابكم الأول. و بالختام تقبّلوا فائق الثناء و الاحترام و السلام.

من المخلص عباس شبّر الحسيني

ص: 14

ثم تلاه الكتاب الرابع من فضيلة السيد عباس شبر أيضا و هذا نصه:

الرسالة الرابعة:

سماحة العلّامة الأكبر ملاذ الإسلام و مرجع المسلمين آية اللّٰه الشيخ محمد الحسين دام ظلّه:

بك ازدانت الأعياد و افترّ ثغرها و عمّت كما عمّت مآثرك الخلقا

فغرّد في روض الشرور هزارها يهنّي بك الإسلام و الدين و الشرقا

بعد السلام على مولاي و رحمة اللّٰه و بركاته، و تقديم أجمل التهاني و أزكاها و أطيب التمنيات و أعلاها بمناسبة هذا العيد السعيد، و الابتهال إلى اللّٰه سبحانه أن يجعل أيامنا كلها بوجود مولانا أعيادا تتجدد بالخير و المسرة و البركات.

غرّد طير البشر لما بدا هلال شوال بأفق السعود

فأسلم و دم ظلّا لنا شاملا و افطر بعيد الفطر قلب الحسود

سبق أن أرسلت لمولاي رسالة عرفته فيها بوصول رسالته الثمينة في التربة الحسينية، و قد دفعتها لأحمد بدران ليستنسخها و يترجمها،

ص: 15

و لأعرض الترجمة على لجنة أختارها ممن يجيد اللغتين، و أرسل الأصل العربي و نسخة من الترجمة لسماحتكم. و قد اجتمعت بابن بدران في شهر رمضان مرّتين، و ألححت عليه بالإسراع في إنجاز الترجمة، فوعد خيرا، و لكنه أخبرني اليوم بأنه لم يكمل الترجمة بعد لطارئ صحي، و أنه سيكملها في القريب العاجل، فطلبت منه أن يدفع لي الأصل العربي أو نسخة منه لإرسالها مقدما لسماحتكم لتطبع.

و أخبرته بالكتاب الذي تناولته بالأمس من الأستاذ الشيخ عبد الغني الخضري في ذلك، فأخبرني أن الأصل و الصور التي استنسخها بالآلة الطابعة في دائرة الميناء، و سيجي ء إلى بنسخة بعد عطلة العيد بلا تأخير، و سأتسلمها منه و أرسلها إليكم على الفور إن شاء اللّٰه، ثم أرسل نسخة من الترجمة بعد إكمالها و تمحيصها بأنظار اللجنة التي اختارها للنظر في مطابقتها للأصل. و ختاما تفضلوا بقبول فائق التهاني و الاحترام و السلام.

من المخلص الصميم عباس شبّر الحسيني و هذه الرسالة التي دبّجتها يراع الإمام جوابا على ذلك الطلب إنما هي، حقا بحث واف في موضوع خطير لم يسبق أن اهتم به أحد من

ص: 16

الأعلام. أما لعجز يعذر معه، أو لتعاجز إزاء خدمة هذه الطائفة و إبلاغ حقائق مذهبها إلى العالمين. أما سماحة الإمام فهو الرجل الذي لم يتوان جهده في اغتنام الفرص و العمل المجيد حيال الواجب الديني المقدس، الذي لم يشأ أحد من أئمة المذهب ليوقف شيئا من جهده لتدعيم مظاهرة و بث حقائقه، إلا الصفوة القليلة من رجال العلم و الفضيلة و حملة نور الإيمان، ممن يعدّ سماحة الإمام مولانا الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء على رأسهم و في مقدمتهم. فهي بحث طريف في موضوع بكر لم يسبقه إليه سابق، و لا يستطيعه لا حق. و قد توسّع فيه إلى البحث عن مطلق الأرض و خيراتها و أركانها و قدسيتها بنحو بديع، ديني، أدبي، تأريخي، ثم تخلص منه إلى التربة الحسينية.

و حيثما يضع سماحة هذا الإمام الفذ قلمه يأت بالمعجز و المدهش، كما تشهد لذلك عامة مؤلفاته التي أنافت على الثمانين. و ستكون لهذه الرسالة السامية نتائج معنوية كبرى هي أهل بمقام الإمام و جهاده.

حسين محمد الطيب

ص: 17

الرسالة

اشارة

و هذا نص البيان الذي تفضل به يراع الإمام و رشح به قلمه المبارك.

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

يقول اللّٰه جل شأنه في فرقانه المجيد وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهٰا وَ هُمْ عَنْهٰا مُعْرِضُونَ (1).

حقا إن من أعظم تلك الآيات التي نمرّ عليها في كل وقت و على كل حال هي هذه الأرض التي نعيش عليها و نعيش منها و نعيش بها، منها بدؤنا و إليها معادنا. مِنْهٰا خَلَقْنٰاكُمْ وَ فِيهٰا نُعِيدُكُمْ (2). لا نزال نمشي على الأرض، و نثير ترابها في الحرث و النسل، و نقلبها للغرس و الزرع، و نتقلب عليها للضرع و المرع، و نزاولها في عامة شئون الحياة. و لا تزال تدر علينا بخيراتها و بركاتها، و نحن ساهون لأهون، و عن آياتها


1- سورة يوسف: 105.
2- سورة طه: 55.

ص: 18

معرضون، غافلون عما فيها من عظيم القدرة و باهر الصنعة و دلائل العظمة و القوة، هذا التراب الذي قد نعدّه من أحقر الأشياء و أهونها، و الذي هو في رأي العين شي ء واحد و عنصر فرد، كم يحتوي على عناصر لا تحصى و خواص لا تتناهى، تنثر فيه حب القمح مثلا فيعطيك أضعافا من نوعه، و تنثر فيه الفول و العدس و أمثالهما من القطانيات المختلفة في الطعوم و الخواص فتعيدها إليك مضاعفة مترادفة، و تغرس في نفس ذلك التراب نواة النخل و بذرة الكرم و أقلام التين و التفاح و أمثالها من الفواكه فتثمر تلك الثمار الشهية المختلفة الأذواق المتغايرة الخواص.

التراب يخرج لك البطيخ بأنواعه: أصفره و أحمرة و أبيضه بتلك الروائح الطبيعية العطرة و كلّه حلو منعش، و يخرج لك الحنظل و كلّه مر مهلك، كل هذا و الشكل متشابه و الخضرة متماثلة و الماء واحد و التربة واحدة، كما في القرآن يُسْقىٰ بِمٰاءٍ وٰاحِدٍ و الماء ماء، و لما يستوي الشجر، التراب واحد و المستقي واحد و الثمرات و النتائج مختلفة، فمن أين جاء هذا الاختلاف العظيم؟ أ ليست كلها عناصر في الأرض يأخذ كل واحد من تلك البذور ما يلائمه من تلك العناصر الكامنة في التراب المكونة لتلك الثمرة و الأنواع المختلفة لا يختلط واحد بالآخر و لا يشتبه نوع بنوع؟ كل ذلك على نظام متسق، و وزن متفق، و عيار معين، كل فاكهة في فصلها و موسمها، فربيعية لا تدرك في الخريف،

ص: 19

و خريفية لا تنضج في الصيف، و صيفية لا توجد في الشتاء. و أعظم من هذا أثرا و عبرا ما تخرجه الأرض من المعادن. انظر إلى هذه المعادن الثمينة و الأحجار الكريمة من الذهب و الفضة و الياقوت و الفيروزج و نظائرها، هل هي إلا من التراب و من ثمرات الأرض؟ بل ذكر لي بعض المولعين بالصنعة القديمة «علم الكيمياء» ان الإكسير الأعظم الذي يتطلبه أهل هذا الفن و به يحولون الفلزات من واحد لآخر حتى ينتهي إلى الذهب هو أيضا من التراب، و لقد أبدع العارف الرباني الشيخ محمود الشبستري في رسالته المنظومة الموسوعة (كلشن راز) حيث يقول فيها:

شعاع آفتاب از جرم أفلاك نگردد منعكس جز بر سر خاك

تو بودى عكس معبود ملائك از آن گشتۀ تو مسجود ملائك

و ملخص ترجمته: ان الشمس و هي في الفلك الرابع (على الهيئة القديمة) لا ينعكس شعاعها إلا على التراب، و لو لا التراب لما كان لأشعة الشمس فائدة و أثر. ثم يقول: انعكست فيك صفات معبود الملائك أيها الإنسان، لهذا صرت محل سجود الملائكة. نعم نعود إلى الأرض فنقول: و الأرض هي أم المواليد الثلاثة: الجماد، و النبات، و الحيوان، و تحوطها العناية بالروافد الثلاثة: الماء، و الهواء، و الشمس، فهي الحياة و هي الممات و فيها الداء و منها الدواء، و قد تحصى نجوم السماء أما نجوم الأرض فلا تحصى.

ص: 20

نعم لا تحصى نجوم الأرض و لا معادن الأرض و لا عناصر الأرض، و لا تزال الشريعة الإسلامية قرآنها و حديثها يعظم شأن الأرض و ينوّه عنها صراحة و تلميحا فيقول أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفٰاتاً.

أَحْيٰاءً وَ أَمْوٰاتاً (1). وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذٰلِكَ دَحٰاهٰا. أَخْرَجَ مِنْهٰا مٰاءَهٰا وَ مَرْعٰاهٰا (2). فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسٰانُ إِلىٰ طَعٰامِهِ. أَنّٰا صَبَبْنَا الْمٰاءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنٰا فِيهٰا حَبًّا وَ عِنَباً وَ قَضْباً. وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلًا.

وَ حَدٰائِقَ غُلْباً. وَ فٰاكِهَةً وَ أَبًّا (3).

دع عنك ما تخرجه الأرض من نبات و أشجار و حبوب و ثمار و معادن و أحجار، و لكن هلمّ إلى هذا الإنسان ذي العقل الجبار، الذي سخر الأثير و البخار و الكهرباء و الذرة، فهل يكون إلا من التراب؟

و هل عناصره و أجزاؤه التي التام جسمه منها إلا من التراب؟ و هل يتلاشى و يعود إلا إلى التراب؟

و لعلّ من أجل شرف التراب و قداسته و عظيم خيراته و بركاته كنّى رسول اللّٰه صلّى اللّه عليه و آله وصيه و أحب الخلق اليه عليا عليه السلام بأبي تراب، و كانت أحب الكنى إلى أمير المؤمنين عليه السلام (4)، و منها قد استخرج عبد الباقي العمري معنى شعريا عرفانيا حيث قال:


1- المرسلات: 25- 26.
2- النازعات: 30- 31.
3- عبس: 24- 31.
4- صحيح مسلم، ج: 15، كتاب الفضائل، باب فضائل علي عليه السلام، ص: 182.

ص: 21

خلق اللّٰه آدما من تراب فهو ابن له و أنت أبوه

(1) و لعلّ من هنا أيضا ينكشف سرّ تقبيل الأرض بين يدي الملوك تعظيما لهم، يعنى قدس الأرض التي أنشأتك و منها تكوّنت. و قال الحكيم العارف (الخيّام) في بعض رباعياته:

اى خاك اگر سينۀ تو بشكافند بس گوهر قيمتى است در سينه تو

و ترجمته: أيها التراب لو يشقون عن قلبك و ينظرون إلى باطنك لوجدوا فيه الكثير من الجواهر الكريمة ذوات القيمة العظيمة، و أبدع من هذا قول بعض أكابر العرفان الشامخين في (ترجيع بند) له فيه بدائع الأسرار و الحكم يقول فيه:

دل هر ذرۀ كه بشكافى آفتابش در ميان بينى

و ترجمته: قلب كل ذرة إذا شققته و نظرت فيه تجد شمسا منيرة فيه.

و قد حاول بعض الرجال البارزين من المصريين ممن له إلمام بالأدب الفارسي أن يجعل هذا النظم إشارة إلى الذرة التي هي من مخترعات هذه العصور. أما هذا العاجز فلا شك أنه أراد هذه الذرة التي ملأت الأجزاء و منها تكونت الأشياء، و أراد بالشمس تلك الشمس التي أشرقت منها الشموس و الأقمار فعميت عن إدراكها البصائر و الأبصار.


1- الاميني، الغدير، ج: 6، ص: 338.

ص: 22

نعم فهذه الأرض المباركة ذات الآيات الباهرة ألا تستحق التكريم و التعظيم و التعزيز و التقديس؟ و في الأحاديث النبوية أيضا إشارة إلى ذلك حيث يقول صلّى اللّه عليه و آله: «تمسحوا بالأرض فإنها بكم برّة» (1).

و في آخر: «تحفّظوا من الأرض فإنها أمّكم» (2). و «أكرموا النخلة فإنها عمتكم» (3). و «خلق اللّٰه عز و جل النخلة من فضلة طينة آدم عليه السلام» (4).

و هذه كلها رموز و إشارات لا تخفى مغازيها على اللبيب، إذا فلا يتبين من هذا سر أمر الباري جل شأنه للملائكة جميعا أن يسجدوا لآدم الذي خلقه من تراب و أنشأه من الأرض، و أودع فيه جميع خواصها و عناصرها، و فيه انطوى العالم الأكبر. و قد حدثتنا الكتب السماوية عن السجود لآدم بأساليبها المختلفة، فليسجدوا لآدم عبادة اللّٰه و تقديسا و تكريما للأرض ذات الخيرات و البركات و المحيا و الممات.

و منه تعرف أيضا سر امتناع إبليس المخلوق من النار عن السجود للأرض، و العداء و النفرة طبيعي بين النار و الأرض.

الأرض مجمعة و النار مفرقة، و الجمع قوة و الفرقة ضعف، الأرض باردة معتدلة و النار محرقة مشتعلة، الأرض نمو و زيادة و النار إفناء


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج: 82، كتاب الصلاة، باب ما يصح السجود عليه، ح: 6، ص: 158، عن المجازات البنوية.
2- المصدر السابق، ج: 7، كتاب العدل و المعاد، باب صفة المحشر، ص: 97.
3- المصدر السابق، ج: 63، كتاب السماء و العالم، باب التمر، ح: 61، ص: 142.
4- الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج: 4، ح: 5702، ص: 327.

ص: 23

و إبادة، الأرض يعيش بها كل حي و النار يهلك بها كل حي، إذا فليسجد الملائكة لآدم و ليسجد أبناؤه للّٰه على الأرض فإنها أمهم البرّة الحنون.

و من سموّ الأرض على النار و شرفها الذي أشرنا إلى طرف منه و من بعض نواحيه يتضح لك أيضا اندفاع مغالطة الشاعر القديم بشار بن برد في انتصاره لإبليس في تفضيل النار على الأرض بقوله من أبيات:

الأرض مظلمة و النار مشرقة و النار معبودة مذ كانت النار

و هذه الحجّة الواهية تستند إلى دعامتين ساقطتين، الاولى: أن الأرض مظلمة. و مما تلوناه عليك من منافع الأرض و بركاتها تعرف أن الأرض هي المشرقة و النار هي المظلمة، الأرض حياة و الحياة هي النور، و النار لا حياة فيها بل تنعدم بها الحياة و عدم الحياة ظلمة، الأرض أم الحياة و النار أم الموت، و أين الحياة من الموت؟ و كفى بالنار أن اللّٰه جعلها عقابا و مآبا للعاصين، و كفى بالأرض أن جعلها جنّة عدن للمتقين.

الثانية: ان النار معبودة مذ كانت النار. و هذه أسقط من سابقتها، فأن النار لم يعبدها من الأمم إلّا المجوس حتى قيل:

مثل المجوسي في ظلالته تحرقه النار و هو يعبدها

و أما الأرض فلم تزل معبودة على أوليات الدهر بأصنامها

ص: 24

و أوثانها و هياكلها و نواديها، و الجميع من الأرض، و لا تزال أكثر الأمم وثنية إلى اليوم. و حيث تجلّى شرف الأرض و قداستها، إذن فليسجد الملائكة الذين ليسوا هم من الأرض لآدم وليد الأرض، و لا يجوز السجود في شريعة الإسلام- سجود عبادة- إلا للّٰه و إلا على الأرض أو نبات الأرض، و من أجل ما في الأرض من المواد المعقمة و العناصر المنقية، جعلها الشارع في الإسلام مطهرة من الحدث تارة، أي القذارة المعنوية التي لا يزيلها إلا الماء، فإذا لم يوجد الماء أو لم يمكن استعماله فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً (1)، اقصدوا ترابا خالصا نظيفا طيبا فامسحوا فيه الجبين، الذي هو و اليدان أحوج الأعضاء إلى النظافة و إماطة الغبار و الأكدار عنهما، لمزاولة اليد للأعمال و مباشرتها للأجسام المختلفة في الأسناخ و الأوساخ فالتراب يقوم مقام الماء، التراب أخو الماء و الأرض أخته، و مطهرة من الخبث أخرى، حتى مع التمكّن من الماء، فتطهر باطن الحذاء و القدم، و كثيرا من أمثالها، كأسفل العصا و نحوها. فلو تنجّس باطن القدم أو الحذاء و مشيت على الأرض خطوات و زالت العين طهرت القدم، و لا حاجة إلى تطهيرها بالماء (2). فالأرض مسجد و الأرض طهور، و إليه قصد


1- سورة النساء: 43.
2- راجع: الوسائل للحر العاملي، ج: 1، كتاب طهارة، باب طهارة باطن القدم و النعل و الخف، ص: 457- 459.

ص: 25

الحديث النبوي المشهور «جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا» (1) أي أينما أدركتني الصلاة سجدت و صلّيت، و متى أعوزني الماء بها تطهرت فهي طاهرة و مطهرة. نعم و هي مطهرة بما هو أوسع و أدق و أعمق معاني التطهير، فإنّ فيها المواد المعقمة و العناصر المهلكة لجميع جراثيم الأوبئة و الأمراض. و من أجل هذه الصفة و الخصوصية في الأرض أوجبت الشرائع السماوية و بالأخص شريعة الإسلام دفن الأموات فيها، و لا يجوز دفن الميت في غيرها، و أن يوضع خده على الأرض، و لا يجوز حتى إلقاؤه في البحر مع التمكّن من دفنه بالأرض بل و لا إحراقه بالنار، مع أن المتبادر بادئ النظر أنه أبلغ في قمع جراثيم الأموات المضرّة بالإحياء، كما يصنعه البراهمة الذين يحرقون أمواتهم، و لكن أ ليس من الجائز القريب أن يكون جثمان الإنسان يحمل أو تحمل فيه عند مفارقته الحياة مواد من ناشرات الأوبئة التي لو أحست بحرارة النار تطايرت في الفضاء قبل أن تحترق، فتأخذ مفعولها في نشر الأمراض و تلويث الهواء؟ و كذا لو ألقيت في البحار أو الأنهار تنمو و تشتد، بخلاف ما لو دفنت في التراب. و لعل فيه مواد من خاصيتها تلف تلك الجراثيم المختلفة الأنواع التي لو انتشرت لأهلكت كل حي حتى النبات. و قد أيّد العلم الحديث هذه النظرية، حيث


1- الكليني، الكافي، ج: 2، كتاب الايمان، باب الشرائع، ح: 1، ص: 17، و ابن رشد في بداية المجتهد، ص: 65.

ص: 26

اكتشف بعض علماء الغرب- حسبما نقل- أن في التراب مادة تقتل مكروب كل مرض من الأمراض كالسل و التيفوئيد و الملاريا و غيرهما، و لو لا تلك المادة المعقمة في التراب لانتشر من جسد كل ميت أنواع من الأمراض تقضي بالفناء على كل الإحياء، أو لعل إليه الإشارة بقوله تعالى أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفٰاتاً. أَحْيٰاءً وَ أَمْوٰاتاً.

فقد ذكر اللغويون أن معاني «الكفت»: الجمع و الضم و الإماتة (1).

يقال كفته اللّٰه أي أماته، فيكون المعنى المشار إليه في الآية أن الأرض تجمع و تضم الأحياء، ثم تجمع جراثيمها بعد الموت و تميتها، فإن تمت هذه الاستفادة فهي إحدى معجزات القرآن، و هل ترى أن قدماء الفلاسفة و متأخّريهم من اليونان و الهند و الفرس و غيرهم فيما استخرجوه من خواص الأرض و معادنها و حيوانها قد أحصوا كل ما أودعه الصانع الحكيم فيها من الكنوز و الرموز و الخزائن و الدفائن؟

كلا و لا عشر معاشر منها، و لعل نسبة ما وصلوا إليه مما تمنّع عليهم نسبة الذرة من الفضاء و القطرة من الدماء، و لا يزال العلم و البحث يأتي بالعجائب و لا تنتهي حتى تنتهي الدنيا و لن تنتهي.

و إنما الغرض الإشارة إلى أنّ هذه الأرض هي من أعظم آيات اللّٰه الباهرة، نمرّ عليها ليلا و نهارا و نحن عنها معرضون، و لو عرفنا اليسير من منافعها و طبائعها لتجلّى لنا أنها الأم الحنون البارّة بنا، التي ولدتنا


1- الفيروزآبادي، القاموس المحيط، ج: 1، مادة (كفت)، ص: 156.

ص: 27

و أرضعتنا من أخلاف نعمها و خيراتها. و ما هذا البشر إلا غرس من غرسها و شجرة نامية من أشجارها، أولدتنا على ظهرها، و غذتنا من منتوجاتها، و تردنا إلى أحشائها. و في الحديث النبوي «إن الأرض بكم برّة تتيمّمون منها، و تصلّون عليها في الحياة الدنيا، و هي لكم كفات في الممات، و ذلك من نعمة اللّٰه له الحمد، و أفضل ما يسجد عليه المصلّي الأرض النقية» (1).

و قد نوّه عن بعض تلك المزايا الشاعر الحكيم العربي القديم الذي أدرك أول بزوغ شمس الإسلام و لم يسلم، لأنه كان قد رشّح نفسه للنبوة و لم تساعده العناية، و تخطّته إلى من هو أحق بها و أجدر، ذلك أمية بن أبي الصلت، و كان ينظم المطولات الرنانة في السماء و العالم، و المبدأ و المعاد، و القبر و البرزخ، و الحشر و النشر، و الأفلاك و الأملاك.

ففي بعض مطوّلاته يقول عن الأرض:

الأرض معقلنا و كانت أمنا فيها مقابرنا و منها نولد

و في أخرى:

هي القرار فما نبغي بها بدلا ما أرحم الأرض إلا أننا كفر

منها خلقنا و كانت أمنا خلقت و نحن أبناؤها لو أننا شكر

و من الأيام الزكية في شريعة الإسلام هو يوم (دحو الأرض)، و هو


1- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، ج: 1، ص: 178، و البحار للمجلسي، ج: 82، كتاب الصلاة، باب ما يصح السجود عليه، ج: 20، ص: 156 عنه.

ص: 28

اليوم الخامس و العشرين من شهر ذي القعدة الحرام، و هو من الأيام التي يستحب فيها الصيام، و فيه دحا اللّٰه الأرض من تحت الكعبة (أي بسطها و مدها). و فيه دعاء جليل أوله: «اللهم داحي الكعبة، و فالق الحبة، و صارف اللّزبة، و كاشف كل كربة، أسألك في هذا اليوم من أيامك، التي أعظمت حقها، و أقدمت سبقها، و جعلتها عند المؤمنين وديعة و إليك ذريعة» (1) إلى آخر الدعاء. و إليه الإشارة بقوله تعالى:

وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذٰلِكَ دَحٰاهٰا.

نعود فنقول أ ليست هذه الأرض حرية إذا بالتقديس و الكرامة و الإجلال و العظمة؟ و أن نسجد عبودية للّٰه على النظيف منها تكريما لها، و شكرا لعظيم نعمته تعالى علينا بها، و تنشيطا للحركة الفكرية للانتقال من عظمتها إلى عظمة خالقها، و التفاتا إلى أنها مع عجز العقول و الأفكار و الأيدي العاملة في تحليل جميع عناصرها و استخراج كل جواهرها، ليست هي بالنسبة إلى سائر الكرات و الكواكب و الأنظمة الشمسية التي أحصي منها الملايين، و ما أحصي إلا اليسير منها، ما هي إلا ذرة تسبح في بحر هذا الفضاء غير المتناهي.

فما أعظم الخالق؟ و ما أدهش قدرته و عظمته و أبدع صنائعه و خليقته؟

و كل ما ذكرنا من فضل هذه الكرة السابحة في بحر هذا الكون الذي لا ساحل له و هي الأرض معلوم واضح، كما أن من المعلوم الواضح


1- الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد، ص: 669.

ص: 29

أن هذه الأرض مع وحدتها و تساوي بقاعها و أجزائها ظاهرا و لكنها في الامتحان و في ظاهر العيان أيضا مختلفة أشد الاختلاف في البقاع و الطباع و الأوضاع، ففيها الطيبة و الخبيثة، و الحلوة و المالحة، و السبخة و المرة، و إليه الإشارة بقوله تعالى وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجٰاوِرٰاتٌ (1). و هذا الاختلاف شي ء محسوس، فقد يلقي الحارث في أرض قبضة قمح فيعود عليه ريعها بأضعاف البذر سبعين مرة، و قد يلقيه في أخرى فيخيس و يحترق و لا يحصل حتى على البذر. و لا شك أن الطيب النافع هو الحري بالكرامة و التقديس، و لا يبعد أن تكون تربة العراق على الإجمال من أطيب بقاع الأرض في دماثة طينتها و سعة سهولها، و كثرة أشجارها و نخيلها، و جريان الرافدين عليها، و ما يجلبان من الأبليز و هو الذهب الإبريز، و اللجين الجاري و الياقوت و الذهب الأسود. ثم لو تحرّينا هذه السهول العراقية وجدنا من القريب إلى السداد القول إن أسمى تلك البقاع، أنقاها تربة، و أطيبها طينة، و أذكاها نفحة هي تربة كربلاء تلك التربة الحمراء الزكية (2). و كانت قبل الإسلام قد اتخذت نواويس و معابد و مدافن


1- سورة الرعد: 4.
2- راجع: كامل الزيارات لابن قولويه، باب (88) فضل كربلاء و زيارة الحسين عليه السلام، ص: 259- 271، و البحار للمجلسي، ج: 28، كتاب الفتن و الملاحم، باب (2)، ح: 23، ص: 58 عنه.

ص: 30

للأمم الغابرة (1)، كما يشعر به كلام الحسين سلام اللّٰه عليه في إحدى خطبه المشهورة حيث يقول:

«كأني بأوصالي يتقطعها عسلان الفلوات، بين النواويس و كربلاء» (2).

و هذه التربة هي التي يسميها أبو ريحان البيروني في كتابه الجليل (الآثار الباقية) التربة المسعودة في كربلاء (3).

نعم، و إنما يعرف طيب كلّ شي ء بطيب آثاره، و كثرة منافعه، و غزارة فوائده. و يدل على طيب الأرض و امتيازها على غيرها طيب ثمارها، و رواء أشجارها، و قوة ينعها و ريعها. و قد امتازت تربة كربلاء من حيث المادة و المنفعة بكثرة الفواكه و تنوعها و جودتها و غزارتها، حتى أنها في الغالب هي التي تمون أكثر حواضر العراق و بواديه بكثير من الثمار اليانعة التي تختصها و لا توجد في غيرها.

إذا أ فليس من صميم الحق و الحق الصميم أن تكون أطيب بقعة في الأرض مرقدا و ضريحا لأكرم شخصية في الدهر؟ نعم لم تزل الدنيا تمخض لتلد أكمل فرد في الإنسانية و أجمع ذات لأحسن ما يمكن من


1- راجع: تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي، ج: 6، كتاب المزار، باب 22، ح: 138، ص: 73، و البحار للمجلسي، ج: 98، ح: 42، ص: 116 عنه.
2- الإربلي، كشف الغمة، ج: 2، ص: 241، و البحار للمجلسي، ج: 44، تأريخ الحسين عليه السلام، ص: 367 عنه.
3- البيروني، الآثار الباقية، ص: 329.

ص: 31

مزايا العبقرية في الطبيعة البشرية و أسمى روح ملكوتية في اصقاع الملكوت و جوامع الجبروت فولدت نورا واحدا شطرته نصفين سيد الأنبياء محمدا صلّى اللّٰه عليه و آله، و سيد الأوصياء عليا عليه السّلام ثم جمعتهما ثانيا فكان الحسين عليه السّلام مجمع النورين و خلاصة الجوهرين كما قال صلّى اللّٰه عليه و آله: «حسين مني و أنا من حسين» (1) ثم عقمت أن تلد لهم الأنداد أبد الآباد، و إذا كان من حق الأرض السجود عليها و عدم السجود على غيرها، أ فليس من الأفضل و الأحرى أن يكون السجود على أفضل و أطهر تربة من الأرض؟ و هي التربة الحسينية، و ما ذلك إلا لأنها أكرم مادة و أطهر عنصرا و أصفى جوهرا من سائر البقاع. فكيف و قد انضم شرفها الجوهري إلى طيبها العنصري؟ و لما تسامت الروح و المادة و تساوت الحقيقة و الصورة صارت هي أشرف بقاع الأرض بالضرورة، كما صرح بذلك بعض الأفاضل من كتاب هذا العصر (2)،


1- ابن قولويه، كامل الزيارات، باب (14) حب رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله الحسن و الحسين عليهما السّلام، ح: 11، ص: 52، و البحار للمجلسي، ج: 43، تأريخ الحسن و الحسين عليهما السّلام، ح: 35، ص: 271 عنه، و أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، ج: 3، فضائل الحسين عليه السّلام، ص: 177، و قال حديث صحيح و لم يخرجاه.
2- هو عبد اللّٰه العلايلي في كتابه (الإمام الحسين)، و العقاد في (أبو الشهداء) في صفحة:

ص: 32

و شهد به الكثير من الأخبار و الآثار، و إليه أشار السيد قدس سره في منظومة الفقه الشهيرة بالبيت المشهور:

و من حديث كربلاء و الكعبة لكربلا بان علوّ الرتبة

و قد تلاقفت ذلك الشعراء من زمن الشهادة إلى اليوم، و تفننوا في بيان فضل هذه التربة و قداستها و شرفها و استطالتها على جميع بقاع الأرض بالفضل و الشرف، و لو جمع كل ما قيل فيها لجاء مجلدا ضخما.

و في زيارة الشهداء مع الحسين سلام اللّٰه عليه و عليهم «اشهد لقد طبتم و طابت الأرض التي فيها دفنتم» (1). و قد اتفقت كلمات فقهائنا في مؤلفاتهم- مختصرة و مطولة- على أن السجود لا يجوز إلا على الأرض أو ما ينبت منها، غير المأكول و الملبوس، و أفضله السجود على التربة الحسينية. و من تلك المؤلفات الجليلة (سفينة النجاة) لأخينا المرجع الأعظم في عصره الشيخ أحمد كاشف الغطاء قدس سره و قد طبعنا في العام الماضي جزأه الأول مع تعليقاتنا عليه، و أكملنا بتوفيقه تعالى تعاليق الجزء الثاني و هو جاهز للطبع. و قد علقنا على تلك الفقرة من الكتاب قبل أن يردنا هذا السؤال و نتصدى لتحرير هذا الجواب بما نصه بحرفة:

(و لعل السر في التزام الشيعة الإمامية السجود على التربة الحسينية


1- الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد، ص: 722، و البحار للمجلسي، ج: 98، كتاب المزار، باب 35، ص: 201 عنه.

ص: 33

مضافا إلى ما ورد في فضلها من الأخبار، و مضافا إلى أنها أسلم من حيث النظافة و النزاهة من السجود على سائر الأراضي، و ما يطرح عليها من الفرش و البواري و الحصر الملوثة و المملوءة غالبا بالغبار و المكروبات الكامنة فيها، مضافا إلى كل ذلك لعل من جملة الأغراض العالية و المقاصد السامية أن يتذكر المصلّي حين يضع جبهته على تلك التربة تضحية ذلك الإمام بنفسه و آل بيته و الصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة و المبدأ، و تحطّم هياكل الجور و الفساد و الظلم و الاستبداد، و لما كان السجود أعظم أركان الصلاة، و في الحديث «أقرب ما يكون العبد إلى اللّٰه و هو ساجد» (1). مناسب أن يتذكر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية أولئك الذين وضعوا أجسامهم عليها ضحايا للحق، و ارتفعت أرواحهم إلى الملإ الأعلى، ليخشع و يخضع و يتلازم الوضع و الرفع، و يحتقر هذه الدنيا الزائفة و زخارفها الزائلة.

و لعل هذا المقصود من أن السجود عليها يخرق الحجب السبع- كما في الخبر الآتي ذكره- فيكون حينئذ في السجود سر الصعود و العروج من التراب إلى رب الأرباب، إلى غير ذلك من لطائف الحكم و دقائق الأسرار انتهى).

فإذا وقفت على بعض ما للأرض و التربة الحسينية من المزايا


1- الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، ص: 60، و البحار للمجلسي، ج: 82، كتاب الصلاة، باب فضل السجود، ص: 163 عنه.

ص: 34

و الخواص لم يبق لك عجب و استغراب إذا قيل إن الشفاء قد يحصل من التراب، و إن تربة الحسين عليه السّلام هي تربة الشفاء (1) كما ورد في كثير من الأخبار و الآثار التي تكاد تكون متواترة كتواتر الحوادث و الوقائع التي حصل الشفاء فيها لمن استشفى بها من الأمراض التي عجز الأطباء عن شفائها، أفلا يجوز أن تكون تلك الطينة عناصر كيمياوية تكون بلسما شافيا من جملة من الأسقام قاتلة للميكروبات؟

و قد اتفق علماء الإمامية و تضافرت الأخبار بحرمة أكل الطين إلا من تربة قبر الحسين عليه السّلام بآداب مخصوصة و بمقدار معين، و هو أن يكون أقل من حمصة، و أن يكون أخذها من القبر بكيفية خاصة و أدعية معينة (2).

و لا نكران و لا غرابة، فتلك و صفة روحية من طبيب ربّاني، يرى بنور الوحي و الإلهام ما في طبائع الأشياء، و يعرف أسرار الطبيعة و كنوزها الدفينة التي لم تصل إليها عقول البشر بعد. و لعل البحث و التحرّي و المثابرة سوف يوصل إليها و يكشف سرها و يحل طلسمها، كما اكتشف سر كثير من العناصر ذات الأثر العظيم مما لم تصل إليه معارف الأقدمين، و لم يكن ليخطر على بال واحد منهم مع تقدمهم و سمو أفكارهم و عظم آثارهم. و كم من سر دفين و منفعة جليلة في


1- راجع: البحار للمجلسي، ج: 75، كتاب السماء و العالم، باب تحريم أكل الطين و ما يحل أكله منه، ص: 150- 163.
2- المصدر السابق.

ص: 35

موجودات حقيرة و ضئيلة لم تزل مجهولة لا تخطر على بال و لا تمر على خيال؟ و كفى (بالبنسلين) و أشباهه شاهدا على ذلك. نعم لا تزال أسرار الطبيعة مجهولة إلى أن يأذن اللّٰه للباحثين بحل رموزها و استخراج كنوزها، و الأمور مرهونة بأوقاتها، و لكل كتاب أجل و لكل أجل كتاب. و لا يزال العلم في تجدد، فلا تبادر إلى الإنكار إذا بلغك أن بعض المرضى عجز الأطباء عن علاجهم و حصل لهم الشفاء بقوة روحية و أصابع خفية من استعمال التربة الحسينية، أو من الدعاء و الالتجاء إلى القدرة الأزلية، أو ببركة دعاء بعض الصالحين. نعم ليس من الحزم البدار إلى الإنكار فضلا عن السخرية، بل اللازم الرجوع في أمثال هذه القضايا و الحوادث الغريبة إلى قاعدة الشيخ الرئيس المشهورة «كلما فزع سمعك من غرائب الأكوان فذره في بقعة الإمكان حتى يذودك عنه قائم البرهان» هذا بعض ما تيسّر للقلم أن ينفث به مترسلا بذكر شي ء من مزايا الأرض و فلسفة السجود عليها و على التربة الحسينية، بعد أن اتضح أن الشيعة يقولون بوجوب السجود عليها، و عدم جواز السجود على غيرها من الأرض الطاهرة النقية.

و إنما يقولون إن السجود على الأرض فريضة و على التربة الحسينية سنّة و فضيلة، و من السخافة أو العصبية الحمقاء قول بعض من يحمل أسوأ البغض للشيعة إن هذه التربة التي يسجدون عليها صنم يسجدون له. هذا مع أن الشيعة لا يزالون يهتفون و يعلنون في ألسنتهم

ص: 36

و مؤلفاتهم أن السجود لا يجوز إلا للّٰه تعالى، و أن السجود على التربة سجود له عليها لا سجود لها. و لكن أولئك الضعفاء من المسلمين لا يحسنون الفرق بين السجود للشي ء و السجود على الشي ء، السجود للّٰه عز شأنه، و لكن على الأرض المقدسة و التربة الطاهرة، و سجود الملائكة كان للّٰه و بأمر من اللّٰه تكريما لآدم، نعم قد صار السجود على التربة الحسينية من عهد قديم شعارا شائعا لهذه الطائفة (الشيعية) يحملون ألواحها في جيوبهم للصلاة عليها، و يضعونها في سجّاداتهم و مساجدهم، و تجدها منثورة في مساجدهم و معابدهم، و ربما يتخيل بعض عوامهم ان الصلاة لا تصح إلا بالسجود عليها، و منشأ هذا الانتشار و مبدأ تكوّن هذه العادة و العبادة و كيفية نشوئها و نموها، و تعيين أول من صلّى عليها من المسلمين، ثم شاعت و انتشرت هذا الانتشار الغريب هو أن في بدء بزوغ شمس الإسلام في المدينة، أعني في السنة الثالثة من الهجرة، وقعت الحرب الهائلة بين المسلمين و قريش في (أحد) و انهدّ فيها أعظم ركن للإسلام و أقوى حامية من حماته، و هو حمزة بن عبد المطلب عم رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله و أخوه من الرضاعة، فعظمت مصيبته على النبي صلى اللّٰه عليه و آله و على عموم المسلمين، و لا سيما و قد مثّلت به بنو أمية، أعني هندا أم معاوية، تلك المثلة الشنيعة فقطعت أعضاءه و استخرجت كبده فلاكتها ثم لفظتها (1)، و أمر


1- ابن الأثير، الكامل في التأريخ، ج: 2، غزوة أحد، ص: 159.

ص: 37

النبي صلى اللّٰه عليه و آله نساء المسلمين بالنياحة عليه في كل ما تم (1)، و اتسع الأمر في تكريمه إلى أن صاروا يأخذون من تراب قبره فيتبرّكون به (2) و يسجدون عليه للّٰه تعالى، و يعملون المسبحات منه. و تنص بعض المصادر أن فاطمة بنت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله جرت على ذلك أو لعلها أول من ابتدأ بهذا العمل في حياة أبيها رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله، و لعلّ بعض المسلمين اقتدى بها. و كان لقب حمزة يومئذ سيد الشهداء، و سماه النبي صلّى اللّٰه عليه و آله أسد اللّٰه و أسد رسوله (3). و يعلق بخاطري عن بعض المصادر ما نصه تقريبا:

[حمزة دفن في أحد، و كان يسمى سيد الشهداء، و يسجدون على تراب قبره. و لما قتل الحسين عليه السّلام صار هو سيد الشهداء و صاروا يسجدون على تربته] انتهى.

و يؤيده ما في مزار البحار للمجلسي قدس سره و نصه: [عن إبراهيم بن محمد الثقفي عن أبيه، عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السّلام قال: إن فاطمة بنت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله كانت سبحتها من خيط صوف مفتّل معقود عليه عدد التكبيرات، و كانت عليها السّلام تديرها بيدها تكبّر و تسبّح حتى قتل حمزة بن عبد المطلب، فاستعملت تربته و عملت منها التسابيح، فاستعملها الناس، فلما قتل الحسين صلوات اللّٰه عليه عدل بالأمر إليه فاستعملوا


1- ابن الأثير الجزري، أسد الغابة، ج: 2، ص: 53.
2- راجع: الغدير للأميني، ج: 5، زيارة حمزة، ص: 161.
3- الصدوق، الخصال، ج: 1، باب الأربعة، ص: 204، و ذخائر العقبى، ص: 230.

ص: 38

تربته لما فيها من الفضل و المزية (1) انتهى.

أما أول من صلّى عليها من المسلمين بل من أئمة المسلمين فالذي استفدته من الآثار و تلقيته من حملة أخبار أهل البيت عليهم السّلام و مهرة الحديث من أساتيذي الأساطين الذين تخرجت عليهم برهة من العمر هو أن زين العابدين علي بن الحسين عليهما السّلام بعد أن فرغ من دفن أبيه و أهل بيته و أنصاره أخذ قبضة من التربة التي وضع عليها الجسد الشريف الذي بضعته السيوف كلحم على وضم فشد تلك التربة في صرة و عمل منها سجادة و مسبحة، و هي السبحة التي كان يديرها بيده حين أدخلوه الشام على يزيد، فسأله ما هذه التي تديرها بيدك؟

فروى له عن جده رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله خبرا محصله: أن من يحمل السبحة صباحا و يقرأ الدعاء المخصوص لا يزال يكتب له ثواب التسبيح و إن لم يسبح (2). و لما رجع الإمام عليه السّلام هو و أهل بيته إلى المدينة صار يتبرّك بتلك التربة و يسجد عليها، و يعالج بعض مرضى عائلته بها، فشاع هذا عند العلويين و أتباعهم و من يقتدي بهم. فأول من صلّى على هذه التربة و استعملها هو زين العابدين عليه السّلام الإمام الرابع من أئمة الشيعة الاثني عشر المعصومين عليهم السّلام. و يشير إلى ذلك المجلسسي في البحار في أحوال الإمام المزبور (3). ثم تلاه ولده محمد الباقر عليه السّلام الخامس من


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج: 98، كتاب المزار، باب تربته عليه السّلام، ج: 64، ص: 133.
2- المجلسي، بحار الأنوار ج: 78، ص: 136 عن دعوات الراوندي.
3- المصدر السابق، ج: 46، تأريخ علي السجاد عليه السّلام، باب (5) مكارم أخلاقه و علمه، ح: 75، ص: 79.

ص: 39

الأئمة عليهم السّلام و تأثر في هذه الدعوة، فبالغ في حث أصحابه عليها و نشر فضلها و بركاتها (1). ثم زاد على ذلك ولده جعفر الصادق عليه السّلام فإنه نوّه بها لشيعته، و كانت الشيعة قد تكاثرت في عهده و صارت من كبريات طوائف المسلمين و حملة العلم و الآثار، كما أوعزنا إليه في رسائلنا (أصل الشيعة) (2)، و قد التزم الإمام عليه السّلام و لازم السجود عليها بنفسه.

ففي (مصباح المتهجد) لشيخ الطائفة الشيخ الطوسي قدس سره روى بسنده أنه: كان لأبي عبد اللّٰه [الصادق] عليه السّلام خريطة ديباج صفراء فيها تربة أبي عبد اللّٰه [الحسين] عليه السّلام فكان إذا حضر الصلاة صبّه على سجادته و سجد عليه، ثم قال عليه السّلام: السجود على تربة أبي عبد اللّٰه عليه السّلام يخرق الحجب السبع (3). و لعل المراد بالحجب السبع هي الحاءات السبع من الرذائل التي تحجب النفس عن الاستضاءة بأنوار الحق و هي: (الحقد، الحسد، الحرص، الحدة، الحماقة، الحيلة، الحقارة) فالسجود على التربة من عظيم التواضع و التوسل بأصفياء الحق يمزقها و يخرقها و يبدلها بالحاءات السبع من الفضائل و هي: (الحكمة، الحزم، الحلم، الحنان، الحصافة، الحياء، الحب). و لذا يروي صاحب الوسائل عن الديلمي


1- المصدر السابق، ج: 98، كتاب المزار، باب تربته عليه السّلام، ح: 83، ص: 138 عن المزار الكبير.
2- محمد الحسين آل كاشف الغطاء، أصل الشيعة و أصولها، ص: 123.
3- الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد، ص: 733، و البحار للمجلسي، ج: 98، ح: 74، ص: 135، و ج: 82، ح: 14، ص: 153 عنه.

ص: 40

قال: كان الصادق عليه السّلام لا يسجد إلا على تراب من تربة الحسين عليه السّلام تذلّلا للّٰه تعالى و استكانة إليه (1). و لم تزل الأئمة عليه السّلام من أولاده و أحفاده تحرّك العواطف و تحفّز الهمم و توفّر الدواعي إلى السجود عليها و الالتزام بها و بيان تضاعف الأجر و الثواب في التبرّك بها و المواظبة عليها حتى التزمت بها الشيعة إلى اليوم هذا الالتزام مع عظيم الاهتمام.

و لم يمض على زمن الصادق عليه السّلام قرن واحد حتى صارت الشيعة تصنعها ألواحا و تضعها في جيوبها كما هو المتعارف اليوم.

فقد روي في الوسائل عن الإمام الثاني عشر الحجة عليه السّلام أن الحميري كتب إليه يسأله عن السجدة على لوح من طين قبر الحسين عليه السّلام هل فيه فضل؟ فأجاب عليه السّلام: يجوز لك و فيه الفضل. ثم سأله عن السبحة فأجاب بمثل ذلك (2)، فيظهر أن صنع التربة أقراصا و ألواحا كما هو المتعارف اليوم كان متعارفا من ذلك العصر، أي وسط القرن الثالث حدود المائتين و خمسين هجرية، و فيها قال: روي عن الصادق عليه السّلام: «أن السجود على طين قبر الحسين ينوّر الأرضين السبع، و من كانت معه سبحة من طين قبر الحسين كتب مسبحا و إن لم يسبح


1- الديلمي، إرشاد القلوب، ج: 1، باب 32، ص: 115، و الوسائل للحر العاملي، ج: 5، ح: 6809، ص: 366 عنه.
2- الطبرسي، الاحتجاج، ج: 2، أجوبته عليه السّلام لمسائل محمد بن جعفر الحميري الفقهية، ص: 583، و وسائل الشيعة للحر العاملي، ج: 5، كتاب الصلاة، باب السجود على تربة الحسين عليه السّلام، ح: 6807، ص: 366 عنه.

ص: 41

فيها» (1)، و ليست أحاديث فضل هذه التربة الحسينية و قداستها منحصرة بالشيعة و أحاديثهم عن أئمتهم عليه السّلام، بل لها في أمهات كتب حديث علماء السنة شهرة وافرة و أخبار متضافرة، و تشهد بمجموعها أن لها في عصر جده رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله نبأ شائعا و ذكرا واسعا، و الحسين عليه السّلام يومئذ طفل صغير يدرج. بل لعل بعضها قبل ولادته و النبي صلّى اللّٰه عليه و آله ينوّه بقتل الحسين عليه السّلام و آل بيته و أنصاره فيها، و إذا أردت الوقوف على صدق هذه الدعوى و مكانها من الصحة فراجع كتاب الخصائص الكبرى للسيوطي طبع حيدرآباد سنة 1320 ه في باب أخبار النبي بقتل الحسين عليه السّلام (2).

فقد روى فيه ما يناهز العشرين حديثا عن أكابر الثقات من رواة علماء السنّة و مشاهيرهم، كالحاكم (3) و البيهقي (4) و أبي نعيم (5)


1- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج: 1، باب ما يصح السجود عليه، ح: 829، ص: 268، و في الوسائل للحر العاملي، ج: 5، باب السجود على تربة الحسين عليه السّلام، ح: 6806، ص: 365 عنه.
2- السيوطي، الخصائص الكبرى، ج: 2، باب اخباره صلّى اللّٰه عليه و آله بقتل الحسين عليه السّلام، ص:
3- الحاكم، المستدرك على الصحيحين، ج: 3، كتاب معرفة الصحابة، فضائل الحسين عليه السّلام، ص: 176- 180.
4- البيهقي، دلائل النبوة، ج: 6، باب اخباره بقتل ابن بنته الحسين عليه السّلام، ص: 468- 472.
5- أبو نعيم، دلائل النبوة، ج: 2، ذكر أخباره صلّى اللّٰه عليه و آله عن قتل الحسين عليه السّلام، ص: 709- 710.

ص: 42

و أضرابهم (1) عن أم الفضل بنت الحارث و أم سلمة و عائشة و أنس، و أكثرها عن ابن عباس و أم سلمة و أنس صاحب رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و خادمه الخاص به. يقول الراوي في أكثرها: إنه دخل على رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و الحسين في حجره و عينا رسول اللّٰه تهرقان الدموع و في يده تربة حمراء، فيقول الراوي: ما هذه التربة يا رسول اللّٰه؟ فقال: أتاني جبرئيل فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا، و أتاني بتربة من تربته حمراء و هي هذه. و في طائفة أخرى أنه يقتل بأرض العراق و هذه تربتها و أنه أودع تلك التربة عند أم سلمة زوجته فقال صلّى اللّٰه عليه و آله: إذا رأيتيها و قد فاضت دما فاعلمي أن الحسين قتل. و كانت تتعهدها حتى إذا كان يوم عاشوراء عام شهادة الحسين وجدتها قد فاضت دما، فعلمت أن الحسين قد قتل. بل في هذا الكتاب (الخصائص) و في (العقد الفريد) لابن عبد ربه أخرج البيهقي و أبو نعيم عن الزهري قال: بلغني أنه يوم قتل الحسين لم يقلب حجر من أحجار بيت المقدس إلا وجد تحته دم عبيط (2).

و عن أم حيان: يوم قتل الحسين أظلمت الدنيا ثلاثا و لم يمس أحدهم من زعفرانهم شيئا إلا احترق، و لم يقلب حجر في بيت


1- أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، ج: 1، ص: 242 و 283، ج: 3، ص: 242 و 265، ج: 6، ص: 294.
2- ابن عبد ربه الأندلسي، العقد الفريد، ج: 5، حديث الزهري في قتل الحسين عليه السّلام، ص: 127.

ص: 43

المقدس إلا وجد تحته دم عبيط (1).

أما أحاديث التربة الحسينية و قارورة أم سلمة و غيرها و شيوع ذكرها في حياة النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و إخباره عن فضلها و عن قتل الحسين عليه السّلام فيها قبل ولادة الحسين عليه السّلام و بعد ولادته و هو طفل صغير، المروية في كتب الشيعة و التأريخ و المقاتل فهي كثيرة مشهورة متضافرة، بل متواترة لو اجتمعت لجاءت كتابا مستقلا (2). و من باب الاستطراد و المناسبة نقول: إن نبينا صلّى اللّٰه عليه و آله كما أخبر بقتل ولده الحسين عليه السّلام في كربلاء قبل وقوعه، و دفع لزوجته أم سلمة من تربتها و أراها لجملة من أصحابه، كذلك أخبر بحوادث كثيرة و وقائع خطيرة قبل وقوعها، فوقع بعضها في حياته و بعضها بعد رحلته من الدنيا.

(فمن الأول) إخباره بفتح مكة و دخولهم المسجد الحرام آمنين مطمئنين، كما في القرآن الكريم، و إخباره بغلبة الروم على الفرس في بضع سنين كما في القرآن أيضا، و إخباره بأن كسرى قد مات أو قتل (3)، و إخباره بالكتاب الذي مع حاطب بن بلتعة (4)، و كثير من


1- السيوطي، الخصائص الكبرى، ج: 2، باب اخباره صلّى اللّٰه عليه و آله بقتل الحسين عليه السّلام، ص:
2- راجع على سبيل المثال: البحار للمجلسي، ج: 44، تأريخ الحسين عليه السّلام، باب اخبار اللّٰه بشهادته عليه السّلام، ص: 223- 249.
3- الراوندي، الخرائج و الجرائح، ج: 1، معجزات النبي صلّى اللّٰه عليه و آله، رقم 218، ص: 132.
4- صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب 141، و كتاب المغازي، باب 46، و كتاب التفسير، باب سورة 60، و مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب 161، و أحمد في مسنده، ج: 1، ص: 79.

ص: 44

أمثالها.

(و من الثاني) إخباره بأن أصحابه يفتحون ممالك كسرى و قيصر، و أن أصحابه يختلفون في الخلافة من بعده، و إخباره بمقتل عثمان، و شهادة أمير المؤمنين عليه السلام بسيف ابن ملجم، و بسم ولده الحسن عليه السلام، و غلبة بني أمية على الأمة، و بشهادة قيس بن ثابت الشماس، و بفتح الحيرة البيضاء، و قضية المرأة التي و هبها لبعض أصحابه، و لما فتح الحيرة خالد بن الوليد طلبها منه و استشهد بشاهدين من الصحابة فدفعها له، و هي الشماء أخت عبد المسيح بن بقيلة كبير النصارى و قسهم الأعظم، إلى كثير من أمثال هذه الوقائع التي لو جمعت لكانت كتابا مستقلا أيضا.

تتمة فيها فوائد مهمة

اشارة

حيث أننا ذكرنا في صدر هذه النبذة الوجيزة جملا تتعلق بالأرض و أحوالها و ناحية من شئونها و خيراتها و بركاتها، رأينا من المناسب تعميم الفائدة بالتوسع في ذكر نواح أخرى تتعلق بالأرض، تشريعية أو تكوينية، حسبما يخطر على البال مع جري القلم، و لا ندعي الاستيعاب و الإحاطة، فإنه يحتاج إلى استفراغ واسع لا يساعد عليه تراكم أشغالنا و وفرة أعمالنا، و تهاجم العلل و الأسقام على قوانا، و إنما

ص: 45

نذكر ما خطر و تيسر على جهة الأنموذج، و لعل المتتبع يجد أكثر مما ذكرنا، و يستدرك بالكثير و القليل علينا، و باللّه المستعان و عليه التكلان.

الفائدة الأولى:

اشارة

ورد في جملة من أخبارنا المروية في كتب الحديث المعتبرة، بل هي أقصى مراتب الاعتبار و الوثاقة عندنا، مثل كتاب (الكافي) الذي هو أجل و أوثق كتاب عند الشيعة الإمامية، نعم ورد فيه و في أمثاله من الكتب العالية الرفيعة كعلل الشرائع للصدوق أعلى اللّٰه مقامه فضلا عن غيره من المتأخرين (كالبحار) و غيره عدة أخبار، و لعل فيها الصحيح و الموثق، مضمونها الشائع عند العوام أن الأرض يحملها حوت أو ثور وضعها على قرنه، فإذا شاء أن تكون في الأرض زلزلة حرك قرنه فتزلزل الأرض، مثل ما في (روضة الكافي) ما نصه: «علي بن محمد، عن صالح بن أبي حمّاد، عن بعض أصحابه، عن عبد الصمد بن بشير، عن أبي عبد اللّٰه أي (الصادق عليه السلام) قال: «إن الحوت الذي يحمل الأرض أسرّ في نفسه أنه إنما يحمل الأرض بقوته، فأرسل اللّٰه تعالى إليه حوتا أصغر من شبر و أكبر من فتر، فدخلت في خياشيمه فصعق، فمكث بذلك أربعين يوما، ثم إن اللّٰه عز و جل رؤف به و رحمه و خرج، فإذا أراد اللّٰه جلّ و عز بأرض زلزلة بعث ذلك الحوت إلى ذلك

ص: 46

الحوت فإذا رآه اضطرب فتزلزلت الأرض» (1).

و نقله (الوافي) (2) و (من لا يحضره الفقيه) (3) ثم عقبه صاحب الوافي الفيض الكاشاني رحمه اللّٰه بقوله: و سر هذا الحديث و معناه مما لا يبلغ إليه أفهامنا (4). و نقل الشيخ الصدوق في الفقيه حديثا: «أن زلزلة الأرض موكولة إلى ملك يأمره اللّٰه متى شاء فيزلزلها» (5)، و في خبر آخر: «أن اللّٰه تبارك و تعالى أمر الحوت بحمل الأرض و كل بلد من البلدان على فلس من فلوسه، فإذا أراد عز و جل أن يزلزل أرضا أمر الحوت أن يحرك ذلك الفلس فيحركه، و لو رفع الفلس لانقلبت الأرض بإذن اللّٰه عز و جل» (6). إلى كثير من أمثالها التي لا نريد في هذا المجال جمعها و استقصاءها و إنما الغرض الإشارة و الإيماء إليها، و التنبيه على ما هو المخرج الصحيح منها و من أمثالها بصورة عامة، فنقول: إن أساطين علمائنا كالشيخ المفيد و السيد المرتضى و من عاصرهم أو تأخر عنهم كانوا إذا مرّوا بهذه الأخبار و أمثالها مما تخالف الوجدان و تصادم بديهة العقول، و لا يدعمها حجّة و لا برهان، بل هي فوق ذلك أقرب


1- الكليني، الروضة من الكافي، ح: 365، ص: 255.
2- الفيض الكاشاني، الوافي، ج: 3، كتاب الروضة، باب الزلزلة و عللها، ص: 126 عن الكافي.
3- الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج: 1، ح: 1512، ص: 542.
4- الفيض الكاشاني، الوافي، ج: 3، كتاب الروضة، باب الزلزلة و عللها، ص: 126.
5- الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج: 1، ح: 1511، ص: 542.
6- الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج: 1، ح: 1513، ص: 543.

ص: 47

إلى الخرافة منها إلى الحقيقة الواقعة، نعم إذا مرّ على أحدهم أحد هذه الأحاديث و ذكرت لديهم قالوا هذا خبر واحد لا يفيدنا علما و لا عملا، و لا يعملون إلا بالخبر الصحيح الذي لا يصادم عقلا و لا ضررا، و لذا شاع عن هذه الطبقة أنهم لا يقولون بحجّية خبر الواحد إلا إذا كان محفوفا بالقرائن المفيدة للعلم، و لا بد من رعاية القواعد المقررة للعمل بالخبر المنقول عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و الأئمة المعصومين عليه السلام و هي فائدة جليلة لا تجدها في غير هذه الأوراق.

القاعدة الكلية و الضابطة المرعية:
اشارة

إن الأخبار عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و الأئمة المعصومين عليه السلام سواء كانت من طرق رواة الإمامية، أو من طرق الجماعة و السنّة، تكاد تنحصر من حيث مضامينها في أنواع ثلاثة:

النوع الأول: ما يتضمن المواعظ و الأخلاق و تهذيب النفس

و تحليتها من الرذائل، و ما يتصل بذلك من النفس و الروح و العقل و الملكات، و يلحق بهذا ما يتعلّق بالجسد من الصحة و المرض و الطب النبوي، و خواص الثمار و الأشجار و النبات و الأحجار و المياه و الآبار، و ما يتضمن من الأدعية و الأذكار و الإحراز و الطلاسم و خواص الآيات

ص: 48

و فضل السور و قراءة القرآن، بل و مطلق المستحبّات من الأقوال و الأفعال و الأحوال. فكل خبر ورد في شي ء من هذه الأبواب و الشؤون يجوز العمل به و الاعتماد عليه لكل أحد من سائر الطبقات، و لا يلزم البحث عن صحة سنده و متنه، إلا إذا قامت القرائن و الأمارات المفيدة للعلم بكذبه. و أنه من أكاذيب الدسّاسين و المفسدين في الدين.

النوع الثاني: ما يتضمن حكما شرعيا فرعيا تكليفيا أو وضعيا

، و هي عامة الأخبار الواردة في أبواب الفقه من أول كتاب الطهارة، بما يشتمل عليه من الغسل و الوضوء و التيمم و المياه و نحوها، و كتاب الصلاة بأنواعها الكثيرة من الفروض و النوافل من الرواتب و غيرها، ذوات الأسباب و غيرها، و الزكاة و الخمس و أحكام الصوم و الجهاد، و أبواب المعاملات و العقود الجائزة و اللازمة، و كتاب النكاح و أنواعه و الطلاق و أقسامه، و ما يلحق به من الخلع و الظهار و غيرهما، إلى أن ينتهي الأمر إلى الحدود و الديات و أنواع العقوبات الشرعية و الجرائم و الآثام المرعي فيها سياسة المدن و الصالح العام. وكل الأخبار الواردة و المروية في شي ء من هذه الأبواب لا يجوز العمل بها و الاستناد إليها إلّا للفقيه المجتهد الذي حصلت له من الممارسة و بذل الجهد و استفراغ

ص: 49

الوسع ملكة الاستنباط، و كملت له الأهلية مع الموهبة القدسية. نعم يجوز لأهل الفضل و المراهقين و الذين هم في الطريق النظر فيها و الاستفادة، منها و لكن لا يجوز لهم العمل بما يستفيدونه منها و يستظهرونه من مداليلها، و لا الفتوى على طبقها قبل حصول تلك الملكة و رسوخها بعد المزاولة الطويلة و الجهود المتمادية، مضافا إلى الاستعداد و الأهلية. نعم لا يجوز للأفاضل- فضلا عن العوام- حتى في المستحبات مطلقا، إلا ما كان من قبيل الأذكار و الأدعية، فإن ذكر اللّٰه حسن على كل حال. و يكفي في بعض المستحبات الرجاء لإصابة الواقع و الرجاء بنفسه إصابة، كما يدل عليه إخبار من بلغه ثواب على عمل فعمله رجاء ذلك الثواب أعطي ذلك الثواب و إن لم يكن الأمر كما بلغه، و لكن مراجعة المجتهد حتى في مثل هذه الأمور أبلغ و أحوط.

النوع الثالث: ما يتضمن أصول العقائد من إثبات الخالق الأزلي و توحيده،

أعني نفي الشريك عنه، و صفاته الثبوتية و السلبية، و ما إلى ذلك من تقديسة و تنزيهه، و أسمائه الحسنى و صفاته العليا و تعالى قدرته و عظمته، ثم النبوّة، و الإمامة، و المعاد و ما يتصل به من البرزخ و النشر و الحشر و نشر الصحف و الحساب و الميزان و الصراط إلى جميع ما ينظم في هذا السلك، إلى أن ينتهي إلى مخلوقاته جل شأنه من السماء و العالم

ص: 50

و النجوم و الكواكب و الأفلاك و الأملاك و العرش و الكرسي، إلى أن ينتهي إلى الكائنات الجوية من الشهب و النيازك و السحاب و المطر و الرعد و البرق و الصواعق و الزلازل، و الأرض و ما تحمله و ما يحملها، و المعادن و الأحجاز الكريمة، و البحار العظيمة و خواصها و ما فيها، و الأنهار و مجاريها، و الرياح و مهابها و أنواعها، و الجن و الوحوش و أنواع الحيوان بحريا أو بريا أو سمائيا، إلى أمثال ذلك مما لا يمكن حصره و لا يحصر عدّه. فإن الأخبار عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و الأئمة عليهم السلام قد تعرّضت لجميع ذلك، و قد ورد فيها من طرق الفريقين الشي ء الكثير. و في الحق أن هذا من خصائص دين الإسلام و دلائل عظمته و سعة معارفه و علومه، فإنك لا تجد هذه السعة الواردة في أحاديث المسلمين في دين من الأديان مهما كان، و لكن الضابطة في هذا النوع من الأخبار أن ما يتعلّق منه بالعقائد و أصول الدين من التوحيد و النبوّة، فإن كان مما يطابق البراهين القطعية و الأدلّة العقلية و الضرورية يعمل به، و لا حاجة إلى البحث عن صحة سنده و عدم صحته، و هذا مقام ما يقال إن بعض الأحاديث متونها تصحّح أسانيدها، و ان كان مما لم يشهد له البرهان و لم تؤيده الضرورة، و لكنه في حيز الإمكان ينظر، فإن كان الخبر صحيح السند صح الالتزام به على ظاهره و إلا فإن أمكن صرفه عن ظاهره و تأويله بالحمل على المعاني المعقولة تعيّن تأويله، و إن لم يمكن تأويله و كان مضمونه منافيا

ص: 51

للوجدان صادما للضرورة فمع صحة سنده لا يجوز العمل به لخلل في متنه، بل يردّ علمه إلى أهله، و ان كان غير صحيح السند يضرب به الجدار و وجب إسقاطه من جمهرة الأخبار.

إذا تمهدت هذه المقدمة، فنقول في الأخبار الواردة في الأرض و الحوت و الثور، و كذا ما ورد في الرعد و البرق و نحوها، من أن البرق مخارق الملائكة، و الرعد زجرها للسحاب، كما يزجر الراعي إبله أو غنمه، و أمثال ذلك مما هو بظاهره خلاف القطع و الوجدان، فإن الأرض تحملها مياه البحار المحيطة بها و قد سبروها و ساروا حولها فلم يجدوا حوتا و لا ثورا، و عرفوا حقيقة البرق و الرعد و الصواعق و الزلازل بأسباب طبيعية قد تكون محسوسة و ملموسة و تكاد تضع إصبعك عليها.

فمثل هذه الأخبار على تلك القاعدة إن أمكن حملها على معان معقولة و جعلها إشارة إلى جهات مقبولة و رموزا إلى الأسباب الروحية المسخرة لهذه، دقيقة القوى الطبيعية فنعم المطلوب. و إلّا فالصحيح السند يردّ علمه إلى أهله، و الضعيف يضرب به الجدار و لا يعمل و لا يلتزم بهذا و لا ذاك. و هنا دقيقة لا بدّ من التنبيه عليها و الإشارة إليها و هي: أن من الجلي عند المسلمين عموما بل و عند غيرهم أن الوضع و الجعل و الدس في الأخبار قد كثر و شاع، و امتزج المجعولات في الأخبار الصحيحة، بحيث يمكن أن يقال أن الموضوعات

ص: 52

قد غلبت على الصحاح الصادرة من أمناء الوحي و أئمة الدين. و يظهر أن هذه المفسدة و الفتق الكبير في الإسلام قد حدث في عصر النبوّة، حتى صار النبي صلّى اللّٰه عليه و آله يحذّر منه و ينادي غير مرّة: «من كذب علي متعمدا فليتبوّأ مقعده من النار» (1)، و إنه «قد كثرت علي الكذابة و ستكثر» (2). و مع كل تلك المحاولات و التهويلات لم تنجع في الصد عن كثرته فضلا عن إبادته، و قد حدث في عصره صلى اللّٰه عليه و آله و ما يليه الشي ء الكثير من الاسرائيليات و أقاصيص عن الأمم الغابرة، و نسبة المعاصي و الكبائر إلى الأنبياء و المرسلين و المعصومين، و اشتهر بهذه الموضوعات أشخاص مشهورون في ذلك العصر مثل عبد اللّٰه بن سلام، و كعب الأحبار و وهب بن منبه و أمثالهم، ثم تتابعت القرون على هذه السخيمة، و انتشرت هذه الخصلة الذميمة، ففي كل قرن أشخاص معرفون بالجعل، و قد يعترفون به أخيرا، و أشهرهم بذلك زنادقة المسلمين المشهورين مثل حمّاد الراوية و زملائه، و مثل ابن أبي العوجاء و أمثالهم (3).

ذكر العالم الثبت العلّامة الحبر الجليل الفلكي الرياضي الشهير (أبو


1- سنن ابن ماجة، ج: 1، باب التغليظ في تعمّد الكذب على رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله، ح: 30 و 33، ص: 13.
2- الطبرسي، الاحتجاج، ج: 2، أجوبة الجواد عليه السلام على مسائل يحيى بن أكثم في مجلس المأمون، رقم 323، ص: 477، و البحار للمجلسي، ج: 2، باب 29، ح: 2، ص: 225 عنه.
3- لمزيد الاطلاع ذكر العلّامة الأميني عددا كبيرا منهم، راجع الغدير للاميني، ج: 5، سلسلة الكذّابين و الوضّاعين، ص: 209- 275.

ص: 53

ريحان) البيروني في كتابه الممتع العديم النظير- الآثار الباقية- طبع أوربا قال ما نصه في (ص: 67- 68):

و قد قرأت فيها قرأت من الأخبار أن أبا جعفر محمد بن سليمان عامل الكوفة من جهة المنصور حبس عبد الكريم بن أبي العوجاء، و هو خال معن بن زائدة و كان من المانويّة، فكثر شفعاؤه بمدينة الإسلام (1) و ألحّوا على المنصور حتى كتب إلى محمد بالكف عنه، و كان عبد الكريم يتوقع ورود الكتاب في معناه، فقال لأبي الجبار و كان منقطعا إليه: إن أخرني الأمير ثلاثة أيام فله مائة ألف درهم، فأعلم أبو الجبار محمدا، فقال الأمير ذكّرتنيه و قد كنت نسيته فإذا انصرفت من الجمعة فاذكرنيه فلما انصرف ذكّره إياه فدعا به فأمر بضرب عنقه، فلما أيقن أنه مقتول قال: اما و اللّٰه لئن قتلتموني لقد وضعت أربعة آلاف حديث أحرّم بها الحلال و أحلّ بها الحرام، و لقد فطّرتكم في يوم صومكم، و صوّمتكم في يوم فطركم، ثم ضربت عنقه، و ورد الكتاب في معناه بعده، انتهى.

و ذكر غيره على ما يخطر ببالي أن بعض المحدثين قال في آخر عمره: إني وضعت في رواياتكم خمسين ألف حديث في فضل قراءة القرآن و خواص السور و الآيات، فقيل له تبوّأ إذا مقعدك من النار فقد ورد عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله أنه قال: من كذب علي متعمدا فليتبوّأ مقعده من


1- هكذا وردت في المصدر و لعلها (السلام).

ص: 54

النار فقال: ما كذبت عليه بل كذبت له (1)، و لم يعرف هذا الشقي أن الكذب له عنه كذب عليه. و هذا قليل من كثير مما ورد في هذا الباب (2). و هنا ملحوظة أخرى غير خفية و هي أن الكثير ممن دخلوا الإسلام لم يدخلوه رغبة فيه و اعتقادا بصحته، و ما دخلوه إلّا للكيد فيه و هدم مبانيه، و العدو الداخلي أقدر على الإضرار من العدو الخارجي، فدسّوا في الأحاديث أخبارا واهية تشوّه صورة وجه الإسلام الجميلة و دعوته المقبولة، و تحطّ من كرامته و تلفّ من منشور رأيته التي خفقت على الخافقين.

و هذا باب واسع يحتاج إلى فصل بيان لا مجال له هنا، و إنما الغرض هل يبقى وثوق بعد هذا بصدور هذه الأخبار من أئمتنا المعصومين عليهم السلام؟ الذين هم تراجمة الوحي و مجسمة العقول و المثل العليا، فكيف يحدّثون بما لا يقبله العقل و لا يساعده الوجدان؟ نعم يمكن تأويل قضية الأرض و الحوت و الثور على فرض صدورها عن الأئمة عليهم السلام بأنها إشارة إلى أن الحوادث هي قوّة الحياة المودعة في الأرض التي يحيا بها النبات و الحيوان و الإنسان، فإن قوّة الحياة هي التي تحمل الأرض، و الثور إشارة إلى ما يثير تلك القوة و يستغلّها من


1- القرطبي، التذكار، ص: 156، و ذكره الأميني، الغدير، ج: 5، سلسلة الزهّاد و الكذّابين، ص: 276 عنه.
2- يقول البخاري صاحب الصحيح: احفظ مائتي ألف حديث غير صحيح. ذكره القسطلاني في شرحه (إرشاد الساري)، ج: 1، الفصل الخامس، ص: 59.

ص: 55

الآلات و المعدّات، إلى كثير من التأويلات و المحامل التي لسنا الآن بصددها، و إنما الغرض المهم تنبيه أرباب المذاهب الإسلامية و غيرهم، بل و حتى عامة الإمامية أنه لا يجوز التعويل و الاعتماد على ما في كتب الأحاديث من الأخبار المروية عن أئمتنا عليهم السلام، و لا يصح أن ينسب إلى مذهب الإمامية ما يوجد في كتب أحاديثنا، و لو كانت في أعلى مراتب الجلالة و الوثاقة، و قد اتفقت الإمامية قولا واحدا أن أوثق كتب الحديث و أعلاها قدرا و أسماها مقاما هو كتاب (الكافي) و يليه (الفقيه) و (الإستبصار) و (التهذيب) و مع ذلك لا يصح الاعتماد على ما روي فيها فإن فيها السقيم و الصحيح، و المعوج و المستقيم، و الغث و السمين، من حيث السند تارة، و من حيث المتن أخرى، و من كلا الجهتين ثالثة. و لذا قسم أساطين الإمامية في القرون الوسطى الأحاديث- بما فيها الكتب الأربعة المشهورة- إلى أربعة أقسام:

الصحيح و الحسن و الموثوق و الضعيف، و لا يتميز بعضها عن بعض إلّا بعد الجهود و استفراغ الوسع، و للأوحدي من أعلام المجتهدين. على أننا ذكرنا في جملة من مؤلّفاتنا أن ملكة الاجتهاد و قوة الاستنباط لا يكفي فيها مجرّد استفراغ الوسع و بذل الجهد، بل تحتاج إلى استعداد خاص يستأهل بها منحة إلهية و لطفا ربانيا يمنحها الحق جل شأنه للأوحدي، فالأوحدي من صفوة عباده. و من مجموع ما ذكرنا في هذا المقام يتّضح أن نسبة بعض كتبة العصر جملة من الأمور الغريبة إلى

ص: 56

مذهب الإمامية لخبر أو رواية وجدوها في كتبهم، أو اعتمد عليها بعض مؤلفيهم لا يصحّ، و لا يصحّ جعله مذهبا للشيعة بقول مطلق، بل لعلّه رأي خاص لذلك المؤلف لا يوافقه جمهورهم و أساطين علمائهم، كما أنه لا يجوز لعوام الإمامية فضلا عن غيرهم النظر في الأخبار التي هي من النوعين الآخرين، فإنها مضلّلة لهم و مظنّة خطر عليهم، و ليس هو من وظيفتهم و عملهم، بل لا بدّ من إعطاء كل فن لأهله و أخذه من أربابه و أساتيذه. و بالجملة فتمييز الخبر الصريح دلالة المقبول مذهبا ليس إلا لأساتذة الفقه و جهابذة الحديث و مراجع الأمة الأصحاء لا المدعين و الأدعياء.

و ما كل ممشوق القوام بثينة و لا كل مفتون الغرام جميل

الفائدة الثانية مما يتعلق بالأرض:

اشارة

إن الشارع الحكيم في الشريعة الإسلامية قد علّق على الأرض جملة أحكام ذكرها الفقهاء في متفرق كتب الفقه، و قد ذكرناها في رسائلنا العملية المطبوعة (كالوجيزة) و (حواشي التبصرة) و (السفينة) و (السؤال و الجواب) و غيرها، فلنذكرها هنا بالإيماء و الإشارة بمناسبة ذكر الأرض و شئونها و أحكامها، مرتبة على حسب ترتيب الفقهاء لكتب الفقه.

ص: 57

كتاب الطهارة

(1) الأرض من المطهرات العشرة، تطهّر باطن القدم و أسفل العصا و باطن النعل و الحذاء و نظائرها مع المشي عليها و زوال عين النجاسة.

(2) الاستجمار بأحجار ثلاثة طاهرة من الأرض تطهّر المخرج و تغني عن الماء.

(3) التيمّم بالصعيد و هو إما مطلق وجه الأرض فيشمل الصخر و الحصى و الرمل و أشباهها، أو خصوص التراب على خلاف بين الفقهاء كالخلاف بين اللغويين، و لعلّ الأول أرجح و هو بالكيفية المشروحة في كتب الفقه يغني عن الغسل و الوضوء الواجبين و المستحبين في مواضع الضرورة بل و مطلقا في بعض الموارد.

(4) وجوب دفن الأموات في الأرض بنحو يمنع ظهور رائحته و من وصول الوحوش إليه.

(5) تعفير خده بالأرض عند دفنه.

ص: 58

كتاب الصلاة

(1) جواز الصلاة و المرور في الأراضي الواسعة المملوكة، و لو مع عدم الاستيذان من مالكها مع عدم الإضرار، و كذا جواز الوضوء و الشرب من الأنهار الواسعة المملوكة بغير استيذان.

(2) وجوب السجود على الأرض الطاهرة و ما تنبته غير المأكول و الملبوس.

(3) إرغام الأنف بالأرض عند السجود.

(4) زلزلة الأرض سبب صلاة الآيات المعروفة و هي عشر ركوعات بنحو مخصوص.

الزكاة

وجوب الزكاة فيما تخرجه الأرض من الغلات الأربع: الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب، و استحبابه فيما عدا ذلك، نصف العشر فيما تسقى بالآلة، و ضعفه فيما عدا ذلك.

ص: 59

الخمس

أحد موارد وجوب الخمس الأرض المنتقلة من المسلم إلى الذمي.

البيع

إرث الزوجة في الخيار المتعلّق بالأرض التي ترث فيها الزوجة المنتقلة إلى الزوج أو المنتقلة منه، و هي من معضلات المسائل و فيها أبحاث عميقة و دقيقة و لنا فيها رسالة.

المزارعة

و هي معاملة على زرع الأرض بحصّة معينة من عائدها، و هي نوع من أنواع الإجارة و الاستيجار انفردت عنها بأحكام خاصة و مثلها.

ص: 60

المساقاة

و هي معاملة على سقي الغروس بحصة معينة من ثمرتها.

المغارسة

و هي معاملة على غرس في مدّة معيّنة بمقدار معين من المال أو من ثمراتها. و المشهور عند الفقهاء صحّة المعاملتين الأوليين و بطلان الأخيرة، و الأصح عندنا صحّتها أيضا.

إحياء الموات

و ستأتي الإشارة الموجزة إلى بيان بعض أحكامه في الفائدة الثالثة.

الميراث

حرمان الزوجة من مطلق الأرض عينا و قيمة، سواء كانت خالية

ص: 61

أو مشغولة ببناء و عمارة، أو غرس أو زرع. و ترث من البناء و الغروس قيمة، و من المنقولات عينا. و هذا مما انفردت به الإمامية لأخبار خاصة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.

هذا ما حضرنا على جري القلم و ربّما يجد المتتبع أكثر من هذا.

الفائدة الثالثة و هي نافعة و واسعة:

اشارة

أن الأراضي التي استولى عليها المسلمون أيام الفتح و في الصدر الأول من الإسلام لا تخلو عن كونها:

(إما غامرة) و هي الموات التي لا تصلح للزرع عادة إما لأن الماء يغمرها أكثر السنة، أو لأنه لا يصل إليها مطلقا أو في أيام الزرع، أو لأنها سباخ. و يدخل فيها الأودية و الآجام و رءوس الجبال و سيف البحار. و كل هذه الأنواع تدخل في الأنفال، و هي راجعة لولي الأمر يعمل فيها و فيما يوجد من المعادن في باطنها، و غيرها ما يراه صالحا للإسلام و شئونه و قوة جنديته و أسلحته، فلا يجوز لأحد أن يستغل شيئا منها إلا بإذنه أو إذن خلفائه أو أمنائه على مرور الأحقاب و الأعقاب.

و أما (عامرة) و هي أقسام:

(أولها) و أشهرها: المفتوح عنوة أي بالقهر و القوة، و هو ما أوجف المسلمون عليه بخيل و ركاب، و ذلك كالعراق بأجمعه، و أكثر إيران،

ص: 62

و أكثر أراضي الشام و فلسطين و شرق الأردن و نحوها. و قد شاع و اشتهر أن هذا القسم ملك أو مختص بالمسلمين، و أن تقبيله و تصريفه أيضا لولي الأمر و خلفائه، و هذا القسم هو المعروف بأرض الخراج يقبل الامام لآحاد المسلمين مقدارا منه فيزرعونه، و يأخذ منه العشر، قيمة و هو الخراج أو عينا و هو المقاسمة، ثم يصرف ما يستوفيه من ذلك في مصالح الإسلام و المسلمين سلما أو حربا هجوما أو دفاعا مما لا مصداق له اليوم، بل و يا ليتنا نسلم من شرّهم و نفلت من اشراكهم.

(ثانيها) الأرض التي أسلم عليها أهلها اختيارا كالمدينة و كثير من أراضي اليمن.

(ثالثها) الأرض التي صالح عليها أهلها من أهل الذمة و هي المعروفة بأرض الجزية.

و حكم هذين القسمين أنهما ملك طلق لأربابه لا شي ء عليهم فيهما سوى الزكاة في غلّتهما بشروطها المعلومة.

أما المفتوح عنوة فبعد اتفاق الأصحاب أنها للمسلمين- و أن في غلّتها مضافا إلى الزكاة الخراج أو المقاسمة- اختلفوا أشد الاختلاف في ملكيتها، فبين قائل إنها لا تملك مطلقا بل هي لعنوان المسلمين الكلي في جميع الطبقات إلى آخر الدهر، و بين قائل بأنه يملكها من تقبّلها من الإمام أو السلطان بفرضه عليه من الشروط، و بين مفصّل بأنها تملك تبعا للآثار لا مطلقا، و استدل كل من هؤلاء على مختاره

ص: 63

بدليل من الأخبار و وجوده من الاعتبار و غيرهما. و ارتبك القائلون بعدم الملكية مطلقا أو الاتباع للآثار بالسيرة المستمرة من اليوم إلى يوم الإسلام الأول في البيع و الشراء و الوقف و الرهن على رقبة الأرض، مع قطع النظر عن الآثار. و هذه العقود تتوقف على الملكية إذ لا بيع إلا في ملك، و لا وقف إلا في ملك و هكذا. ثم لازم القولين ان المسجد إذا زال بنيانه بالكلية يزول عن المسجدية حينئذ، و يصح جعله دارا و مزرعة أو غير ذلك، بل و يجوز تنجيسه و مكث الجنب فيه إلى آخر ما هناك. و هذه اللوازم مما لا يمكن الالتزام بها أصلا.

و حل عقدة هذا البحث: إن الأصحاب رضوان اللّٰه عليهم من الصدر الأول إلى اليوم قد توهموا من الأخبار و فهموا منها عدم الملكية الشخصية لأحد من الناس لشي ء من المفتوح عنوة، و أنه ملك لكلّي المسلمين إلى نهاية الدهر لو أن للدهر نهاية، و غفلوا عن نقطة دقيقة في تلك الأحاديث لو التفت أحد منهم إليها لما وقع هذا الارتباك. و حاصل ما يستفاد من مجموع ما ورد من الروايات في هذا الباب هو أن الأرض العامرة قسمان:

(القسم الأول): هو مطلق لأربابه لا شي ء عليهم فيه سوى الزكاة، و هما الأرض التي أسلم عليها أهلها، و التي صالحوا عليها.

(و القسم الثاني): و هو المفتوح عنوة مضافا إلى الزكاة حق آخر لعنوان المسلمين و مصالحهم إلى يوم القيامة، لا يراد بذلك نفي الملكية

ص: 64

مطلقا، بل نفي الملكية المطلقة و بيان أن لها نوعا خاصا من الملكية، و ذاك أن في عائدة حقا للمسلمين ليس في سائر الأنواع، و هذه النكتة بعد التنبيه عليها جلية من الروايات و العجب غفل عنها أولئك الأعاظم.

ففي خبر محمد بن شريح: سألت أبا عبد اللّٰه [أي الصادق عليه السلام] عن شراء الأرض من أرض الخراج فكرهه، و قال: إنما أرض الخراج للمسلمين، فقالوا له: فإنه يشتريها الرجل و عليه خراجها؟ فقال: لا بأس إلا أن يستحي من عيب ذلك (1).

و في (صحيحة صفوان) قال: حدثني أبو بردة بن رجا قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: كيف ترى في شراء أرض الخراج؟ قال: و من يبيع ذلك؟!! هي أرض المسلمين، قال: قلت يبيعها الذي هي في يده، قال:

و يصنع بخراج المسلمين ما ذا؟! ثم قال: لا بأس اشتر (2) حقه منها و يحوّل حق المسلمين عليه و لعلّه يكون أقوى عليها و أملأ بخراجهم منه (3).

أنظر كيف استنكر الإمام عليه السلام بيعها ثم أمضاه من الذي هي بيده إذا


1- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، ج: 7، كتاب التجارة، باب أحكام الأرضين، ح:
2- هكذا في الأصل، و لعل الصواب (أن يشتري).
3- المصدر السابق، ج: 4، كتاب الزكاة، باب الزيادات، ح: (406) 28، ص: 146، و الاستبصار للشيخ الطوسي، ج: 3، كتاب البيوع باب ارض الخراج، ح: (387) 4، ص: 109.

ص: 65

التزم بخراجها، فليس محط النظر في كل طائفة من الأخبار الواردة في هذا الموضوع إلا المحافظة على الخراج الذي هو حق المسلمين و مصالح الإسلام. نعم في هذا كثير من الأخبار ما يظهر منه المنع مطلقا، مثل صحيحة ابن ربيع الشامي: «لا تشتر من أرض السواد شيئا إلا من كانت له ذمة فإنما هو في ء للمسلمين» (1)، و هو و أمثاله محمول على ما ذكرناه.

فاغتنم هذه الفائدة فإنها فريدة و مفيدة، و هي من مفرداتنا فيما أحسب. و المراد بأرض السواد العراق فإنه كان عامرا بأجمعه فمن توجه إليه يرى من بعد سوادا متراكما، و هذا السواد هو البياض حقيقة، إما بياض أراضي العراق اليوم لخرابها و عدم عمرانها فيها سواد الوجه، و حقا ما قالوا: الظلم لا يدوم و إذا دام دمر، هذا حال العامر حال الفتح فإذا خرب و كان صالحا للعمارة ألزم السلطان صاحب الأرض بعمارتها، فإن عجز دفعها ولي الأمر لمن يعمرها و تبقى على ملك الأول و يأخذ أجرة الأرض من المعمّر الثاني و يدفع خراجها، أما لو جهل مالك الأرض فلولي الأمر أن يدفعها للمعمر أو تقبيلا أو تمليكا أو إجارة حسبما يراه من المصلحة، فلو ظهر صاحبها أخذ الأجرة، هذا حكم الموات بعد الفتح، أما الموات قبله و هو الذي أشرنا إليه في صدر هذه الفائدة و هو المعنون بكتب الفقهاء بكتاب


1- الطوسي، تهذيب الأحكام، ج: 7، كتاب التجارات، باب أحكام الأرضين، ح:

ص: 66

(إحياء الموات) فقد شاع و اشتهر حديث: «من أحيا أرضا ميتة فهي له» (1). و ربما يستكشف منه الإذن العام في الإحياء لكل أحد مسلما كان أو غيره، و تكون ملكا طلقا له لا حق فيها لأحد لا خراجها و لا مقاسمة و لا غيرهما، نعم في غلّتها الزكاة بشروطها كغيرها من الأراضي المملوكة، و لكن الأصح عندنا و هو الأحوط استئذان الإمام في الإحياء أو نائبه، فإن شاء أذن له مطلقا و إن شاء بأجرة حسبما يراه من المصلحة و وضع الأرض سهولا و حزونا و غير ذلك. نعم اشترطوا في إحياء الموات شروطا:

[1] أن لا يكون مملوكا لمسلم و معاهد، سواء لم يعلم ملكية أحد له أو علم و باد أهله.

[2] أن لا يكون محجرا فإن التحجير يفيد الاختصاص و الأولوية.

[3] أن لا يكون قد جرى عليه إقطاع من السلطان أو الإمام فإنه كالتحجير.

[4] أن لا يكون مشعرا للعبادة كعرفة و منى و أمثالهما.

[5] أن لا يكون حريما لعامر من بلد أو قرية أو بستان أو مزرعة، و لا ما يحتاج إليه العامر من طريق أو شرب أو مراح أو ميدان سباق و نحوها.


1- راجع: الكافي للكليني، ج: 5، كتاب المعيشة، باب إحياء أرض الموات، ص: 279- 280، و البحار للمجلسي، ج: 73، كتاب الأدب و السنن، باب اللحية و الشارب، ح: 10، ص: 111.

ص: 67

تنبيه

مما يلحق بهذا البحث المشتركات العامة و أصولها ثلاثة:

المياه، و المعادن، و المنافع و هي ستة منافع: المساجد، و المشاهد، و المدارس، و الربط و منها الخانات في الطرق و المنازل للمسافرين، و الطرق أي الشوارع و الجادات، و مقاعد الأسواق.

و معنى الاشتراك هنا أن كل من سبق إلى شي ء أو محل من تلك الأماكن فهو أحق به و لا يجوز لغيره مزاحمته، فلو دفعه غيره فعل حراما قطعا، فإن كان عينا كالماء و المعدن فهو غصب بلا إشكال، و إن كان موضعا كالمدرسة و الخان و الشارع فلا يبعد الغصب على إشكال، و إن كان مشعرا كالمشاهد و المساجد و نحوها فالأقرب عدم تحقيق الغصبية لعدم حق مالي فيها يتحقق به الغصب، كما أوضحناه في كثير من مؤلفاتنا، و ها هنا مباحث جليلة و تحقيقات دقيقة لا يسعها هذا المختصر و هي موكولة إلى محالّها.

ص: 68

الفائدة الرابعة:

اشارة

تشتمل على أمور:

الأمر الأول: كان قدماء فلاسفة الحكمة الطبيعية إلى هذه العصور الأخيرة

يرون أن عناصر الأجسام المادية التي تتركب الكائنات العنصرية منها هي أربعة: الماء، و التراب، و النار، و الهواء، و يسمونها (الاستقصات) و هي كلمة يونانية (1)، و منه نشأت النادرة الأدبية المعروفة، حيث أن أحد أدباء الموصل في بغداد قال في موشحته:

كرة النار على أيدي الهواء رفعت يحملها ابن السماء

استقصات بزعم الحكماء بعضها من فوق بعض ركبا

ليتني كنت تمام الأربع

فقال له بعض النجفيين مطايبة، قال اللّٰه سبحانه في كتابه وَ يَقُولُ الْكٰافِرُ يٰا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرٰاباً (2).

نعم العناصر عند القدماء أربعة، أما اليوم و في العلم الحديث فقد بلغت العناصر التي تتركب منها الأجسام جامدة أو سائلة أو غازا سبعين عنصرا أو أكثر (3)، و أكثر العناصر و المركّبات الكيماوية التي


1- راجع: البحار للمجلسي، ج: 56، كتاب السماء و العالم، باب النار و أقسامها، ص:
2- سورة النّبإ: 40.
3- هذا في زمان المؤلف، أما في الوقت الحاضر فقد تجاوز عدد العناصر المائة عنصر.

ص: 69

تتكون منها الأرض و لا سيما الأراضي الزراعية هي: الازوت و السليس و الأوكسجين و كربونات الجير المغنيسيات و أوكسيد الحديد و الپوتاسا و الصودا و غيرها، و تختلف مقاديرها بحسب اختلاف الأراضي، و تسمى عندهم باسم العنصر الغالب، فبعضها طينية و بعضها رملية و أخرى حصوية و هكذا، و كما أن الأرض و التراب تتركب من العناصر و تنحل إليها فكذلك الماء و الهواء، فإن كلا منهما يتركب من الأوكسجين و الهيدروجين و غيرها بنسب متفاوتة و مقادير معينة، و كذلك الأجسام البشرية و الحيوانية و النباتية. و لكل واحد من هذه العناصر مزية تخصه لا توجد في الآخر، و كل هذا مذكور و مفصل في العلوم الطبيعية بالمعنى الواسع، و ليس الغرض هنا إلا ذكر ما يتعلق بالأرض بنحو موجز كالرمز و يطلبه من أراد التوسع من محالّه و من أهله.

الأمر الثاني: فيما يتعلق بحركة الأرض و سكونها و هي من مهمات المسائل الرياضية و أمهاتها.

و من المعلوم لدى كل ذي حس أن الزمان عبارة عن ليل و نهار يتقوم بهما الشهر، و السنة عبارة عن الفصول الأربعة، و كل هذه المعاني و الاعتبارات متحصلة من الشمس و القمر و الأرض من حركة بعضها على نفسها، و دوران بعضها على بعض، إنما الإشكال على أوليات الدهر، و الخلاف بين أعاظم الحكماء اليونانيين الأولين و غيرهم أنه هل الشمس تدور على الأرض أو

ص: 70

الأرض تدور عليها؟ بعد الاتفاق على أن القمر هو الدائر على الأرض و يتم دورته من المغرب إلى المشرق في سبعة و عشرين يوما تقريبا، و من هذه الدورة و ما يلحقها يحصل الشهر. و الأقوال في حركة الشمس أو الأرض كثيرة قد تزيد على ستة، و لكن المشهور منها مذهبان: الأول مذهب (فيثاغورس) الذي كان قبل المسيح بخمسمائة سنة، ثم تبعه جماعة من فلاسفة اليونان مثل (فلوطرخوس) و (أرشميدس) و (إيزاخوس). و لكن حيث أن هذا الرأي قد يتنافى مع ظاهر الحس، و ما أكثر ما يخطئ الحس، فالمحسوس أن الأرض واقفة و الشمس و القمر يتحركان عليها كما قال الشاعر:

تجري على كبد السماء كما يجري حمام الموت بالنفس

لذلك كفّرهم أهل زمانهم و بقي هذا الرأي مهجورا و مستورا حتى جاء (بطليموس) قبل المسيح بمائة و خمسين سنة فأيّد ما يراه العوام من سكون الأرض و حركة جميع السيارات عليها، و شاع و اشتهر هذا الرأي، و عليه جرى حكماء الإسلام من زمن الرشيد و المأمون إلى زمن ابن سينا و نصير الدين الطوسي و أمثالهم من أعاظم فلاسفة الإسلام إلى هذه العصور الأخيرة، و فرضوا لكل واحد من السيارات فلكا خاصا و الكوكب مركوز في ثخنه و فرضوا العالم الجسماني كلّه في ثلاث عشرة كرة:

(1) الأرض: و هي المركز الذي تدور عليه جميع الكرات

ص: 71

و السيارات و الأفلاك و النيران و غيرها.

(2) الماء: و هو غير تام الاستدارة لانحساره عن الربع المسكون من الأرض، و اللازم بعد اكتشاف أمريكا أن المسكون أكثر من الربع (1).

(3) ثم كرة الهواء محيطة بالأرض و الماء.

(4) كرة النار تحيط بالجميع.

(5) فلك القمر محيط بتلك الكرات و متصل مقعره بمحدبها و القمر مركوز في ثخنه.

(6) فلك عطارد.

(7) الزهرة.

(8) الشمس.

(9) المريخ.

10- المشتري.

11- زحل.

12- فلك الثوابت.

13- الفلك الأطلس و هو فلك الأفلاك و محرك الكل، و ينتهي عالم الأجسام بنهاية هذا الفلك الأعلى، فلا خلا و لا ملا، و يقال إن فلك البروج هو العرش، و فلك الأفلاك هو الكرسي و اللّٰه العالم، و ألجأهم ما رصدوه من حركة القمر و السيارات و ما وجدوه لما عدا النيرين من


1- هذا بلحاظ الفترة التأريخية لتأليف الكتاب.

ص: 72

الرجوع و الإقامة و الاستقامة و هي الخمسة المتحيرة إلى الالتزام بأن كل فلك في ضمنه قطعات كالجوزهرات و الموائل و الحوامل و المثلات و غير ذلك من الفروض التي صارت بها هذه الهيئة (البطليموسية) أعقد من (ذنب الضب). و كان علماء الغرب في القرون التي انبثق فيها نور الإسلام في ظلام دامس، فلما احتكوا بالمسلمين في الحروب الصليبية و في مدارس قرطبة و غيرها من الأندلس فتحوا عيونهم و اتسعت معارفهم من القرن التاسع، و خاضوا في شتّى العلوم و أخصّها الرياضيات، و كانت الهيئة السائدة عندهم هي هيئة بطليموس و من خالفها أحرقوه و أحرقوا كتبه.

و نقل أن الفلكي (برنو) قال بحركة الأرض في القرن العاشر الهجري فأجلوه عن وطنه، ثم سجنوه ست سنين ثم أحرقوه و أحرقوا كتبه، و لكن تأثر به و شيد رأيه (غاليلو) بعد القرن العاشر فاضطهدوه حتى كاد أن يهلك، و لكن بما أن الحقيقة تهتك الستور و تأبى إلا السفور، لذلك انتشر هذا الرأي حتى صار من المسلّمات التي لا تقبل الشك. و خلاصته: إن الأرض كوكب سيار و كرة سابحة في هذا الفضاء حول الشمس كسائر الكواكب التي يتألف منها نظامنا الشمسي، و هي السيارات السبع و غيرها مما توصلوا إليه من الدائرات حول الشمس، و لم يكن معروفا مثل (فلكان) و (نبتون)، و لها- أي الأرض- حركتان (وضعية) و (موضعية) أي انتقالية، فأولى دورانها

ص: 73

على محورها نحو الشمس و منها يحصل الليل و النهار، و تقطع بهذه الحركة في الثانية (300) كيلو متر. و الثانية على الشمس و حولها، و منها تحصل فصول السنة: الربيع و الشتاء و الخريف و الصيف.

و محيطها (40000) كيلو متر و قطرها (13000) و كلها تقريبية، و نسبة حجمها إلى الشمس نسبة الواحد إلى المليون و أربعمائة ألف، و تقطع في حركتها الثانية الدورة في 365 يوم، و تطوي في اليوم الواحد أكثر من خمسمائة ألف فرسخ سابحة في الفضاء تقرب من الشمس و تبعد عنها في مدار إهليجي تقريبا و هي منتفخة مستديرة في وسطها مسطحة في قطبيها و كروية في الجملة، تستمد نورها و سائر السيارات من الشمس، و الشمس تفيض عليها و على سائر السيارات الدائرة حولها النور و الحرارة.

و يعجبني ما في بعض الأخبار على ما يخطر ببالي من قول الإمام الصادق عليه السّلام لبعض أصحابه ممن يزاول علم النجوم إذ يقول للإمام عليه السّلام:

إن لي في النظرة في النجوم لذّة، فيقول عليه السّلام له ممتحنا: كم تسقي الشمس القمر من نورها؟ فقال: هذا شي ء لم أسمعه قطّ، فقال الإمام عليه السّلام: و كم تسقي الزهرة الشمس من نورها؟ إلى أن قال الإمام عليه السّلام: كم تسقي (1) الشمس من اللوح المحفوظ من نوره (2)؟


1- هكذا في الأصل و لعل الصحيح «تستقي».
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج: 55، كتاب السماء و العالم، باب علم النجوم و العمل به، ح:

ص: 74

فإن النور لما كان ألطف و أخف من الماء و يجري أشد من جريانه فإنه يطوي في اللحظة الواحدة مئات الملايين من الأميال حسن جدا التعبير عن إفاضته على الأجسام الفاقدة له بالسقي و الاستقاء، و في هذا الخبر معان عميقة و أسرار دقيقة لا مجال لذكرها هنا، و إنما الغرض الإشارة إلى بلاغة التعبير بالسقي هنا و مناسبته للمقام. و أبلغ و أعلى منه كلمة القرآن المجيد عن دوران الكواكب في مداراتها و حركاتها في أفلاكها بقوله عز من قائل كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (1) فإن هذا الفضاء غير المتناهي أو الذي لم تصل عقول البشر إلى منتهاه لما كان مملوءا بالأثير أو بما هو أشف و ألطف منه و هو أرق من الماء أشبه أن يكون كالبحر المتلاطم و الكواكب في جريانها و حركاتها تسبح فيه و تشق عبابه.

و ها هنا نكتة بديعة و هي أن هذه الجملة الصغيرة لفظا العظيمة مغزى [كل في فلك] تضمّنت نوعا من ألطف أنواع البديع و هو (ما لا يستحيل بالانعكاس)، و ألطف مثال له النادرة المشهورة في كتب الأدب، و هي أن العماد الكاتب التقى ببعض أمراء عصره راكبا فرسا فقال له بديهة: (سر فلا كبابك الفرس) فتنبه الأمير لنكتته البديعة (و إنّ هذا طرده كعكسه) فأجابه بالمثل فورا و قال له: (دام علاء العماد).


1- سورة يس: 40.

ص: 75

هذا ما اتخطّره من عهد بعيد يوم كنا نطالع كتب الأدب أيام الصبا، و هي في الحق لو كانت مع الفكرة و طول الروية فهي آية في قوة الفكر وحدة الذهن، فكيف لو صح أنها على البديهة، و لكن لا يذهبن عنك أن البراعة في الآية الشريفة و علوّ الإعجاز فيها رعاية مناسبة الجملة للموضوع. فإن الموضوع لما كان هو الكوكب الذي يتحرّك في فلكه و مداره حركة مستديرة و لازمها أن تعود إلى مبدئه و يدور على نفسه و طرده كعكسه، فالموضوع معنى موضوع لا يستحيل بالانعكاس، فناسب أن يعبرّ عنه بجملة لا يستحيل بالانعكاس كنفس المعنى و الموضوع، و هذه النكتة غاية في الإعجاز و الروعة و لم يلتفت إليها أحد من الأدباء و المفسّرين.

و نعود إلى ما كنا فيه فنقول: تلك لمحة من حال أرضنا و نظامنا الشمسي، أما الثوابت عند أهل هذه الهيئة فهي شموس أيضا في الفضاء، و لكل واحد منها أقمار و أراض و توابع و أنظمة، و كل واحدة من تلك الشموس أكبر من شمسنا هذه بألوف الملايين، حسبما اكتشفوه بالآلات الجديدة و الأرصاد المستخدمة و التلسكوبات الجبارة، و قد و زنوا النور و ضبطوا مقادير سيره و انعكاساته و جاءوا بالأعاجيب المدهشة مع اعترافهم بأن نسبة ما عرفوه و اكتشفوه من تلك العوالم الشاسعة النيّرة إلى ما جهلوا نسبة الومضة إلى بركان النور، و القطرة إلى البحور، و لكن كل ما اكتشفوه بآلاتهم و أرصادهم تجد الإشارة

ص: 76

إليه في القرآن العظيم و أخبار أئمتنا عليهم السّلام حتى كون النور، و إنه مما يوزن و له مقادير معينة أشار إليه الخبر المتقدم بقوله: «كم تسقي الشمس الأرض من نورها؟» حيث يدل على أن النور له كمية و مقدار تفيضه الشمس على الأرض.

(و الخلاصة) أن حركة الأرض و سائر ما برهنت عليه الهيئة الجديدة هو الموافق للقرآن الكريم و السنة النبوية و لا سيما أخبار أئمتنا عليهم السلام و هو مما يحتاج إلى مؤلّف أو مؤلّفات.

الأمر الثالث: مما يتعلّق بالأرض:

إن الرياضيين من المسلمين بل و غيرهم فرضوا على الفلك المحيط بالأرض و ما فوقها من الأفلاك على طريقتهم دوائر عظام و صغار، و الدائرة العظيمة عندهم هي التي تقسم الكرة نصفين متساويين و الدوائر العظام عشرة، أهمها دائرة المعدل المفروضة على الفلك الأعلى، و تقسم الأرض إلى نصف جنوبي و آخر شمالي. و دوائر منطقة البروج المنتزعة من سير الشمس السنوي على البروج الاثني عشر من الحمل إلى الحوت، و موضع التقاطع في نقطتين بينهما و بين الاولى يسمّيان الاعتدال الربيعي و الخريفي، و أبعد نقطتين بينهما نقطتا الانقلابين الصيفي إلى الشمال و الشتوي إلى الجنوب.

و الثالثة من الدوائر العظام دائرة نصف النهار التي تمرّ على سمت الرأس و القدم و تقسم الفلك و الأرض إلى قسمين شرقي و غربي و تقاطع الأولى و الثانية في نقطتين إلى آخر ما ذكر في كتب الهيئة مما ليس

ص: 77

الغرض بيانه، و إنما المقصود بيان أنهم ذكروا أن المعمور من الأرض هو الربع الشمالي فقط من خط الاستواء إلى ما يقرب من القطب الشمالي، و قسموه إلى الأقاليم السبعة، مبتدئين من جزائر الخالدات من المغرب.

أما علماء الغرب فقسموا هذا الربع المعمور إلى القارات الثلاث قبلا و هي آسيا و إفريقيا و أوربا ثم أضافوا إليها (استراليا) بعد اكتشاف (أمريكا)، فصارت القارات اليوم خمسة (1) و هي عبارة عن مجموع ما على هذه الكرة التي نحن عليها من البلدان و العمارات، ثم أن القرآن ينص على أن الأرضين سبعة حيث يقول جل شأنه اللّٰهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ (2). و قد اختلف الفقهاء و المفسرون في تعيين الأراضي المشار إليها بالآية الكريمة بين ذاهب إلى أنها الأقاليم السبعة، و آخر أنها طبقات الأرض. و هي بعضها متصل ببعض لا فرجة بينهما، و قيل سبع بين كل واحدة إلى الأخرى مسيرة خمسمائة عام، و في كل أرض منها خلق، حتى قيل في كل واحدة منها آدم و حواء و نوح و إبراهيم. و قد يوجد بعض هذا في بعض الأخبار و لكن الأرجح منه إرادة الطبقات الأرضية فقد ذكر علماء طبقات الأرض (الجيولوجيا) أنها تتكون من


1- هذا في زمن المؤلّف، و المعروف اليوم أن القارات سبع.
2- سورة الطلاق: 12.

ص: 78

طبقة طينية و معدنية، و طبقة الأدخنة و الأبخرة، و طبقة نارية تنفجر منها البراكين النارية، و طبقة الجليد و الزمهرير، و لكن الأصح من هذا كلّه و الأحرى بالاعتبار ما ورد في بعض الاخبار في تفسير هذه الآية عن الإمام الرضا عليه السّلام.

فإن الرضا عليه السّلام أجاب من سأله عن ترتيب السماوات السبع و الأرضين السبع فقال عليه السّلام: هذه أرض الدنيا و السماء الدنيا عليها قبّة، و الأرض الثانية فوق السماء الدنيا و السماء الثانية فوقها قبة و الأرض الثالثة فوق السماء الثانية و السماء الثالثة فوقها. إلى آخر الخبر، و في بعضها أنه عليه السّلام وضع يده فوق الأخرى تمثيلا (1).

و من الأدعية الشائعة المعتبرة و ذوات الشأن الدعاء المعروف بدعاء الفرج المستحب في قنوت النوافل و الفرائض «سبحان اللّه ربّ السماوات السبع، و ربّ الأرضين السبع، و رب العرش العظيم» (2).

و في بعض خطب النهج: «الحمد للّه الذي لا تواري عنه سماء سماء و لا أرض أرضا» (3).

و يظهر من هذه الفقرات المتعالية و من الآية الشريفة بل صريحها


1- القمي، تفسير القمي، ج: 2، سورة الذاريات، ص: 329، و البحار للمجلسي، ج:
2- الطوسي، تهذيب الأحكام، ج: 5، كتاب الحج، باب العمل و القول عند الخروج، ح:
3- نهج البلاغة، خطبه 172.

ص: 79

أن هذه الأراضي السبع منفصل بعضها عن بعض، بل يظهر أو صريح جملة من أخبار أخرى منها أن فيها خلائق و سكانا، و يشهد له قوله تعالى يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ.

كما يظهر من جملة أخرى أن الأراضي و الكواكب السيارة أكثر من سبع، و أن له عزّ شأنه عوالم سيارات و أراضي تتجاوز مئات الألوف كلها موجودة فعلا، و لا يحصي عددها إلّا اللّٰه عزّ شأنه و جلّت عظمته.

الأمر الرابع في مبدأ تكوين الأرض:

الذي يظهر أن مجموع آثار الشريعة الإسلامية و من بعض خطب (النهج) أن العالم الجسماني كله سماواته و أرضوه خلقت من زبد البحر، و أن أول ما خلق اللّٰه من الأجسام هو الماء (1). و لعلّه يشير إلى غاز أثيري شفاف من أحد العناصر، و انضم إليه عنصر آخر عبّرت عنه الشريعة بالدخان و الزبد تقريبا للأذهان، ثم خلقت منه الكواكب و الأرضون خلقا استقلاليا لا اشتقاقيا توليديا، نعم يظهر من علماء الغرب أن الأرض شعلة انفصلت من الشمس قبل آلاف الملايين من السنين ثم بردت و جمدت قشرتها الأولى بحيث صارت صالحة


1- راجع: علل الشرائع للشيخ الصدوق، باب 77، ح: 6، ص: 83، و البحار للمجلسي، ج: 5، كتاب العدل، باب الطينة و الميثاق، ح: 23، ص: 240 عنه، و المناقب لابن شهرآشوب، ج: 4، باب إمامة الرضا عليه السّلام، ص: 54، و البحار للمجلسي، ج: 6، كتاب العدل، باب علل الشرائع (النوادر)، ح: 6، ص: 111 عنه، و نهج البلاغة، خ: 1.

ص: 80

للسكنى و الانتفاع، و القمر قطعة من الأرض، فالأرض بنت الشمس و القمر ابن الأرض و كل هذا حدس و تخمين و أحلام و لكنها أحلام جميلة.

الأمر الخامس في نهاية الأرض:

و قد ذكر الكثير من الفلاسفة الأقدمين و المتجدّدين أن هذه الأرض لا بدّ و أن تنتهي إلى الفناء و التلاشي، و ذكروا أسبابا متعدّدة لذلك، منها اصطدامها بمذنب يجعلها هباء منثورا، كما اصطدمت بمذنب في طوفان نوح، حيث دفعها إلى البحار المحيطة ففاضت البحار عليها و أغرقتها. و يشهد لهذا- أي لتلاشي الأرض- كثير من آيات الفرقان المجيد منها قوله إِذٰا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا. وَ بُسَّتِ الْجِبٰالُ بَسًّا. فَكٰانَتْ هَبٰاءً مُنْبَثًّا (1). و لا شك أنها ترتّج باصطدامها بقوة هائلة من مذنّب أو نحوه، و حينئذ تبس الجبال- أي تتفتّت- ثم تطير و تصير هباء في الفضاء. و هكذا الشمس و السماء و النجوم إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2). و تكويرها انطفاء نورها و برودة حرارتها و خمود نارها، و هكذا النجوم. فسبحان وارث السماوات و الأرضين و ما فيها و من عليها، و حيث بلغ بنا الحديث إلى نهاية الأرض فلينته


1- سورة الواقعة: 4- 6.
2- سورة التكوير: 1- 2.

ص: 81

ما أردناه من القول عن الأرض و بعض شئونها و أحوالها.

و قد جرى القلم بما ذكرناه على رسل الذهن و هفو الخاطر، و من المعلوم العتيد و الملحوظات القديمة، شاكرين حامدين للّٰه فضله علينا بتوفيقه و ألطافه، و ذاكرين بالخير و الجميل من حرّك قلمنا بعد الهود، و أفكارنا بعد الجمود، مع شدة المحن و تهاجم الأرزاء علينا، فجزاهم اللّٰه أحسن الجزاء. اللهم عليك توكّلنا و إليك أنبنا و إليك المصير.

و كان ختام هذه النبذة يوم الرابع من ذي القعدة الحرام 1365 ه في مدرستنا العلمية في النجف الأشرف.

محمد الحسين آل كاشف الغطاء

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.